لقد دعاني إلى القيام بهذه دراسة عدة أمور أهمها:

الأول:

الرغبة في الكشف عن جانب من أحكام الشريعة الإسلامية يتعلق بالبيئة، لاسيما بعد أن أخذ الاهتمام بشؤون البيئة وقضاياها يتزايد عالميًّا منذ أواخر القرن الماضي؛ حيث عُقدَت لذلك عدّة مؤتمرات دولية، تسعى إلى إنقاذ البيئة من التدهور، وحمايتها من كل أشكال التلوث الذي أصابها بفعل عوامل عديدة.

الثاني:

أن قضية البيئة تعد اليوم مدخلًا ضروريًّا لإقامة علاقات دولية على أسس إنسانية مشتركة؛ لأن البيئة- في النهاية- هي قاسم مشترك بين شعوب الأرض كلها، والبشر إما أن يكونوا شركاء في الإنسانية، أو جيرانًا في عالم واحد، وذلك كله يفرض إعادة تأسيس العلاقة بينهم، على ضوء التحديات والمخاطر التي يتعرضون لها.

الثالث:

أن مستوى الوعي البيئي عندنا في العالم العربي والإسلامي متدهور للغاية، سواء على المستوى المادي أو الثقافي، وهو أمر يشكل خطورة على إنسان المنطقة؛ إذ البيئة في جانبيها تُعَدُّ من أخطر المؤثرات في حياة البشر.

الرابع:

أن الباحث في الفقه الإسلامي يُصاب بالدهشة، عندما يجد ذلك الاهتمام البالغ بمسائل البيئة لدى الفقهاء المسلمين في مختلف عصورهم، ثم ينظر إلى الواقع، فلا يجد أثرًا لذلك في حياة المسلم المعاصر.

إن العناية بالبيئة لا تتوقف عند مجرد حمايتها من كل أشكال التلوث: المائي والهوائي والغذائي، والإشعاعات النووية، وغير ذلك، وإنما تتجاوز ذلك إلى ضبط السلوك الاجتماعي، وحفظ الحقوق الخاصة والعامة، وإقامة العدالة الاجتماعية، وتحقيق الكرامة الإنسانية،

وذلك ما قام به فقهاء الإسلام عندما أوجبوا الضمان أو المسؤولية المدنية على كل مَن أحدث ضررًا خاصًّا أو عامًّا بالغير، في نفسه أو بدنه أو ماله، وبهذا حكموا بأن يضمن الطبيب ما يترتب على عدم قيامه بواجبه في علاج المريض،

ويضمن الأجير ما يترتب على الأضرار الناشئة عن تخلُّفه عن القيام بما وافق على العمل فيه. ويضمن قائد السيارة، إذا قاد سيارته بسرعة، فأثار ترابًا أو طينًا، فأضرَّ بثوب أحد المارَّة، فضلًا عن إصابته.

والخامس:

أن الاهتمام بالبيئة- بكل أبعادها- يشكل اليوم أحد محاور العمل التنموي والتماسك الاجتماعي، بما يعنيه ذلك من ضرورة استعادة الدور الفعال لأهمية التعويض عند وقوع الضرر، وعند حدوث الإصابات البدنية أو المالية، أو ما يسمى «إعمال العقوبات» بجانبيها، الجوابر والزَّواجر، فهما- معًا- يتعاونان في ضبط السلوك، وحفظ الحقوق، وأداء الواجبات، وإزالة الخصومات والعداوات.

ولا شك أن ذلك كله يستلزم جهودًا متتابعة في مجالات التشريع، والتوجيه الديني والثقافي، بما يحقق في النهاية سلامة الدنيا والدين، وسلامة الحياة لجميع البشر، وللكائنات الحية كافة.

من أجل ذلك كله؛ أعددت هذه الدراسة؛ لتجيب عن الأسئلة التالية:

1- ما مكانة البيئة في الشريعة الإسلامية؟

2- كيف تعامل الفقه الإسلامي مع قضايا البيئة ؟

3- ما الدور الذي تقوم به مقاصد الشريعة في حماية البيئة؟

4- ما وسائل حماية البيئة بين الشريعة الإسلامية والاتفاقيات الدولية؟

وبعد، فإن كشفت هذه الدراسة عن جوانب عناية الفقه الإسلامي بالبيئة، وأبرزت مدى الصلة بين مقاصد الشريعة وقضايا البيئة، وأسهمت في حل المشكلات التي يعاني منها المجتمع الإسلامي المعاصر، بل العالم كله، فإنها تكون قد حققت الغرض منها.

المبحث الأول: مفهوم البيئة وأهم عناصرها

1- بالرجوع إلى المعاجم اللغوية، اتضح أن الأصل اللغوي لكلمة (بيئة) هو الجذر (ب.و.أ). قال في لسان العرب (بوأ): باء إلى الشيء يبوء بَوْأً: رجع… والباءة: النكاح. وأباءه منزلًا، وبوَّأه إياه، وبوأه له، وبوأه فيه، بمعنى هيأه له، وأنزله، ومكَّن له فيه.

قال: والاسم البيئة… وتبوأت منزلًا أي نزلته، ومنه قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ…﴾ [الحشر: 9]. جعل الإيمان محلًّا لهم، وقد يكون أراد: وتبوءوا مكان الإيمان، وبلد الإيمان، فحذف.

وتبوأ المكان: حَلَّه… وإنه لحسن البيئة، أي هيئة التبوُّء.

ومن المعاني السابقة يظهر أن الفعل (بوأ) يدور حول عدة معانٍ هي: تهيئة المنزل، وبمعنى رجع، وكذلك بمعنى النكاح، وبمعنى الحالة.

2- أما في الاصطلاح فقد تعددت تعريفات الباحثين، لكن التعريف الذي أميل إليه هو: أن البيئة هي المحيط الذي يعيش فيه الإنسان.

وهذا المحيط أو هذه البيئة تشمل عدة جوانب هي:

البيئة الطبيعية، والبيئة الصناعية، والبيئة الاجتماعية، وكل ما يحيط بالإنسان من عناصر أو ظروف أو أشياء أو أحداث تؤثر فيه سلبًا أو إيجابًا، فالبيئة- إذًا- منظومة متكاملة من المؤثرات المختلفة، التي تتفاعل مع بعضها البعض، وتتبادل عملية التأثير في أحوال بني الإنسان، فتخلق الفقر والغنى، والصحة والمرض، والتقدم والتخلف، والعلم والجهل، والخير والشر، والصلاح والفساد، وغير ذلك.

3- ولا بأس ب، يُذكَر- هنا- التعريف الذي اختاره واضع قانون البيئة المصري، رقم (4) لسنة (1994م)، حيث عرفها بأنها: «المحيط الحيوي الذي يشمل الكائنات الحية، وما يحتويه من مواد، وما يحيط بها من هواء، وماء، وتربة، وما يقيمه الإنسان من منشآت».

4- ولا بأس- أيضًا- أن نذكر ما أشار إليه بعض الباحثين من أن المعنى اللغوي لكلمة (البيئة) يكاد يكون واحدًا بين مختلف اللغات، فهو ينصرف إلى الوسط الذي يعيش فيه الكائن الحي بوجه عام، كما ينصرف إلى الظروف التي تحيط بذلك الوسط، أيًّا كانت طبيعتها، ظروفًا طبيعية أو اجتماعية أو بيولوجية، والتي تؤثر على حياة ذلك الكائن، ونموه، وتكاثره.

المبحث الثاني: تتبع تاريخي

1- عند النظر في تاريخ العناية بالبيئة يلاحظ أن البيئة قديمة قدم الإنسان ذاته؛ حيث كانت أول حادثة بيئية هي قتل أحد ابني آدم لأخيه، ثم عجزه عن التصرف في جثة أخيه، حتى بعث الله غرابًا يعلمه كيف يتصرف في الجثة، ومن ذلك الوقت أخذت قضية البيئة تنمو شيئًا فشيئًا مع نمو حياة الإنسان وتطورها.

2- من الطبيعي أنه منذ عقود طويلة من الزمن، كانت المشكلات البيئية محدودة للغاية؛ إذ الحياة في غاية السهولة والبساطة، والنمو البشري يتصاعد بصورة غير مقلقة، والموارد الطبيعية في أغلب البلدان تغطي حاجة أهلها وتزيد عليهم، ولم يكن غريبًا أن تبلغ مصر- على سبيل المثال- في عصر الفراعنة مبلغًا كبيرًا في الثروات والموارد الطبيعية، إلى الحد الذي وصفه القرآن الكريم في قول الله تعالى عن قوم فرعون: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ﴾ [الشعراء: 57، 58].

3- كذلك تشهد الآثار المصرية القديمة

– كمنطقة الأهرامات، ومعبد أبي سمبل بجنوب أسوان، ووادي الملوك بالأقصر وغيرها- على وعي بيئيٍّ عالٍ، ولذلك بقيت منذ آلاف السنين حتى الآن، تتحدى كل عوامل الانهيار والفناء.

ويكفي في ذلك أن نعرف أن الفراعنة أقاموا بعبد أبي سمبل بصورة معمارية مكَّنتهم من جعْل أشعة الشمس تتعامد عبر المنافذ على وجه الملك رمسيس الثاني لمدة (21 دقيقة) في يومين اثنين فقط، من أيام السنة، هما يوم ميلاده، ويوم تتويجه ملكًا على البلاد، وهما يوم 22 فبراير، ويوم 22 أكتوبر من كل عام.

4- «وكان للحضارة اليونانية دور مهم في علم البيئة؛ فقد نشر العالم والفيلسوف اليوناني «أبقراط» كتابًا بعنوان «عَبْر الأجواء والمياه والأماكن»؛ إدراكًا منه لتأثير هذه العوامل الثلاثة على حياة الكائنات الحية، وخاصة الإنسان. وقد كان لأرسطوطاليس وتلاميذه دور كبير في كتب التاريخ الطبيعي، ولعل أشهر مؤلفاته في هذا المجال «كتاب الحيوان»، وهناك العديد من العلماء اليونانيين الذين بذلوا جهودًا عظيمة في مجال علم الحيوان والنبات».

5- ويتضح مدى الاهتمام بالبيئة قديمًا في اختيار مواقع بناء المدن؛

يقول ابن خلدون: «اعلم أن المدن قرار تتخذه الأمم عند حصول الغاية المطلوبة من الترف ودواعيه، فتؤثر الدَّعة والسكون، وتتوجه إلى اتخاذ المنازل للقرار. ولما كان ذلك للقرار والمأوى، وجب أن يراعى فيه دفع المضارِّ بالحماية من طوارقها، وجلْب المنافع وتسهيل المرافق لها: فأما الحماية من المضارِّ فيراعى لها أن يدار على منازلها جميعًا سياج الأسوار، وأن يكون وضع ذلك في ممتنعٍ من الأمكنة، إما على هضبة متوعِّرة من الجبل، وإما باستدارة بحر أو نهر بها، حتى لا يوصل إليها إلا بعد العبور على جسر أو قنطرة، فيصعب منالها على العدو، ويتضاعف امتناعها وحصنها. ومما يراعى في ذلك للحماية من الآفات السماوية طِيب الهواء للسلامة من الأمراض…

وأما جلب المنافع والمرافق للبلد فيراعى فيه أمور، منها:

الماء؛ بأن يكون البلد على نهر، أو بإزائها عيون عذبة ثرَّة…

ومما يراعى من المرافق في المدن طيب المراعي لسائمتهم،

إذ صاحب كل قرار لا بدّ له من دواجن الحيوان للنِّتاج والضَّرْع والركوب، ولا بدّ لها من المرعى…

ومما يراعى أيضًا المزارع… وقد يراعى أيضًا قربها من البحر لتسهيل الحاجات القاصية من البلاد النائية…

ومما يراعى في البلاد الساحلية التي على البحر، أن تكون في جبل،

أو تكون بين أمة من الأمم موفورة العدد، تكون صريخًا للمدينة متى طرقها طارق من العدو…».

6- أما العناية بالبيئة من خلال التعاليم والأحكام الإسلامية، فتتجلى في العديد من المؤسسات الحضارية التي استحدثها العقل المسلم،

ومن هذه المؤسسات:

أ- مؤسسة الخلافة؛ حيث رأينا الخلفاء يعتنون بأمر البيئة بأنفسهم، وبولاتهم، وأعوانهم،

كما رأينا عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يحث أحد الصحابة على غرس الشجر في أرضه،

ويشاركه بيده في الغرس، ورأيناه يوصي بالرفق بالحيوان،

ورأيناه يشجع على إحياء الموات. وكذلك رأي علي (رضي الله عنه) في أرض الخراب بالكوفة أنها موات.

ب- مؤسسة القضاء: حيث يستطيع القاضي أن يحكم بالتعزير على كل من أساء إلى البيئة.

ج- مؤسسة الحِسْبة: وكان لها دور كبير في الإشراف والإرشاد والرقابة والتأديب،

وكانت تتدخل في كثير من الأمور الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.

د- مؤسسة الوقف الخيري: وهي مؤسسة تقوم على أساس الصدقة الجارية الدائمة بأن يحبس الإنسان (الأصل المالي) ويسبّل ثمرته،

وأن يجعلها موقوفة على الخيرات، وسد الثغرات في حياة الناس…

حتى رأينا من خيار الناس مَن ينشئ وقفًا للكلاب الضالَّة.

هـ- مؤسسة الزكاة: وقد قامت الزكاة بدورها في معالجة مشكلات الفقراء والمساكين والغارمين،

وأبناء السبيل من أصحاب الحاجات…

ومن المعلوم أن مشكلة الأعداء الثلاثة: الفقر والمرض والجهل، تعد من أعوص المشكلات التي تعترض رعاية البيئة والإحسان إليها.

7- لقد ظل الاهتمام بالبيئة في جوانبها المختلفة،

لا يمثل مصدر قلق للبشرية، لكن الحال تغير تمامًا بعد الثورة الصناعية والتكنولوجية التي أحدثت نُقْلة كبيرة في طريقة تعامل الإنسان مع ثروات الطبيعة ومواردها،

وأدى الإسراف في استعمال هذه الموارد إلى استنزافها

«وإفقار الحياة على هذه الأرض، وإحداث اختلال في الموازين الدقيقة للبنية الطبيعية للكرة الأرضية؛

حيث زادت حركة التصحُّر نتيجة إهمال الزراعة في السهول، وتوالت الفيضانات المدمِّرة بسبب قطْع الغابات في الجبال،

واستخدمت المواد الكيميائية بصورة عشوائية، وأغرقت الموارد المائية الطبيعية بالفضلات البشرية والصناعية،

فتلوث النطاق المائي، وتسربت السموم إلى باطن الأرض،

فتضاءلت الثروة البحرية، واختلَّ توازن الكائنات المائية الحية في أجزاء كثيرة من البحار،

كما أسهم نَفْثُ النِّفايات الغازية في الجو في زيادة نسبة السموم في الهواء، وتحولها إلى أمطار حارقة، أثرت في دورة الأمطار،

فأصبح الجفاف بسببها أهم مشكلات عدد غير قليل من الأقطار».

8- برز الاهتمام العالمي بضرورة حماية البيئة منذ النصف الثاني من القرن العشرين،

وتجلى ذلك في الاتفاقيات الدولية التي وصل عددها إلى مئة وثلاثين اتفاقية دولية،

لكن ما تزال الشكوى قائمة من تدهور شؤون البيئة لأسباب كثيرة،

حتى ذهب العلامة الشيخ القرضاوي إلى القول بأنه:

«لو كان للبيئة لسان ينطق، وصوت يسمع، لصَكَّت أسماعَنا صرخات، الغابات الاستوائية، التي تُحرَق عمدًا في الأمازون،

وأنين المياه التي تخنقها بقع الزيت في الخلجان والبحار، وحشرجة الهواء الذي يختنق بغازات المصانع والرَّصاص في مدن العالم الكبرى».

للدراسة بقية

من صابر علام

كاتب مصري