يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه (إعلام الموقعين عن رب العالمين): إن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العباد في المعاش والمعاد.

والشريعة عدلٌ كلها، ورحمةٌ كلها ومصالحٌ كلها، وحكمةٌ كلها، فكلّ مسألة خرجت عن العدل إلى الجور،

وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة، وإن أُدخلت فيها بالتأويل.

فالشريعة عدل  الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسوله صلى الله عليه وسلم أتمّ دلالة وأصدقها .

في هذا النص الفقهي من الفقيه المقاصدي ابن القيم، رحمه الله،

نجد المقاصد العامة للشريعة الإسلامية وأهدافها بشكل مختصر وواضح،

فالفقيه هنا لا يتحدث عن فروع فقهية  قابلة للنقاش، وإنما يتحدث عن كليات لا تقبل النقاش، وأهداف عامة من شأنها إعلاء الإنسان ومكانته،

ويتناول النص كذلك كرامة الإنسان وموقعه الحقيقي في الشريعة، كما يعلن الفقيه في النص لماذا الشريعة في الحياة ؟ وما أهدافه؟

الناس اليوم حين يرون الجور في محاكم بلاد المسلمين، والاستبداد في سياسات الدول الإسلامية،

والحروب الأهلية بين الطوائف والقبائل والقوميات والدول في العالم الإسلامي، بل وحين يرون بأن البعض من الجماعات تبيح قتل الناس باسم الدين،

أو يفتي البعض من المشايخ في سفك الدماء باسم الدين، أو يشرعون الظلم باسم الاستقرار حينا،

وباسم رعاية المصالح حينا آخر تأويلا للنصوص، كل ذلك يتناقض مع أساسيات الشريعة ومقاصدها كما ذكر ابن القيم رحمه الله في هذا النص المحكم .

إن الشريعة الإسلامية معقولة المعنى،

ومفهومة الحكمة، ومدركة من خلال العقل العلمي أنها ذاهبة إلى تحقيق العدل، ومراعاة المصالح،

وإخراج الناس من الظلم إلى العدل، ومن ضيق الدنيا إلى سعته، ومن عبودية العباد (الاستبداد) الديني والسياسي إلى عبودية رب العالمين (التحرير والتنوير)،

وهي تبنى على الحكم، لا على العبث، وعلى العدل، لا على الظلم، وعلى المصالح، لا على المفاسد، وعلى الرحمة، لا على البغي، وبهذا فهي نور الله، وهداه، وشفاؤه التام، وطريقه المستقيم.

لا تقبل الشريعة الإسلامية إهانة الإنسان باسم الدين، أو دمار مكانته باسم المصالح، أو نقص إنسانيته باسم درء المفاسد،

وكل ذلك مرفوض عند ابن القيم رحمه الله الذي يقرر بوضوح  (فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل)،

فالشريعة رحمة الله للناس {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}،

ولولا تلك الرحمة الربانية لكان الفقه عذابا، والشريعة إصرًا وأغلالا، ولكن الله الذى أنزل الشريعة يعلم مصالح العباد من العباد {والله يعلم وأنتم لا تعلمون}

بل وقال تعالى {أأنتم أعلم أم الله؟}،

فالله هو الذي أحاط بكل شيء علما، وهو الذء أنزل كتابه بعلمه،

 وقرر شريعته وفق مصالح الخلق في العاجل والآجل، وفي المعاش والمعاد .

إن القوانين البشرية تخطط لمصالح اليوم (الآنية) بينما تخطط الشريعة للمصالح كلها في الأزمنة والأمكنة المختلفة،

وهذا كله معلوم بجمع النصوص كلها من الكتاب والسنة، وفهم مقاصد الأحكام من خلال استقراء النصوص،

ولهذا قال الشاطبي رحمه الله في الموافقات:

والمعتمد أنا استقرينا من الشريعة أنها وضعت لمصالح العباد استقراءً لا ينازع فيه الرازي ولا غيره، فإن الله تعالى في بعثته للرسل،

 وهو الأصل {رسلا مبشرين ومنذرين لئلاّ يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}،

فالشريعة وفقا للشاطبي وابن القيم موضوعة لمصالح الخلق عاجلا وآجلا، فردا وجماعة، دولة وحضارة، واقعا ومستقبلا،

ولهذا كانت كما قال ابن القيم رحمه الله: (فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد)،

فهذه النظرة الشمولية للحياة من خصائص الشريعة، وكذلك النظرة المتوازنة، فلا مكان للشريعة الإسلامية النظرة الآحادية، أو النظرة القاصرة،

لأنها من الله العليم الخبير (ألا يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير) .

من أعظم أهداف الشريعة (العدل) ومن أهم مقاصد الشريعة (الرحمة)،

فالشريعة المحمدية تجمع في داخلها ( العدل والرحمة )، فلو تم ملاحظة نصوص فقهية تخرج من طور العدل الرباني،

والرحمة النبوية نعرف بالضرورة أنها ليست من الشريعة، بل هي محاولات بشرية في وضعها في السياق الشرعي،

وهي من تأويلات الناس، ولهذا قال ابن القيم رحمه الله: (فليست من الشريعة، وإن أدخلت فيها بالتأويل).

إن البشرية اليوم في كل أرجاء الدنيا بحاجة إلى الشريعة، ولكن الشريعة كذلك بحاجة إلى فهم،

والفهم أيضا يحتاج إلى أدوات شرعية، وأخرى في العلوم الإنسانية،

فلا بد من فهم دقيق للنصوص ومقاصدها الكلية والجزئية، وفهم للواقع بشمولية واتزان،

ولا بد من دراسة  فقه التنزيل، ودراسة علم التوقع حتى نتعلم من خلالهما  الناجز والمتوقع من المصالح والمفاسد،

وكل ذلك يحتاج إلى معرفة للثوابت والمتغيرات، ونحن نعيش في عالم تتغير فيه الحياة بشكل مذهل،

وما سيأتي قريبا سيكون ثورة على كل الثوابت، ولكننا نستطيع أن نواجه كل ذلك بالعلم والحكمة.

من علي قاسم

داعية مصري