مآلات ونتائج تقييد حركة الأمة ومحاصرة العلماء والعمل الأهلي

لحكمة أرادها الله سبحانه، لم تدم الخلافة الراشدة، بعد وفاة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم، إلا ثلاثين سنة، ثم تأسس الملك الجبري العضوض، وهو مرادف للاصطلاح السياسي الحديث «الديكتاتورية والاستبداد».

فإذا كان منهج الحكم خلال فترة الخلافة الراشدة هو الشورى واحترام إرادة الأمة في اختيار حكامها، وعدم فرض حاكم لا يرضاه المسلمون، وكذلك عدم توريث الحكم، ثم الأخذ برأي الخبراء والأكفاء وعدم تهميشهم، والحكم بالعدل والسوية بين الناس..

كانت هذه هي أسس الحكم الراشد، فلما وصلنا إلى مرحلة الحكم العضوض ورغم التغيير الكبير في مناخ الحكم وأسلوبه، ورغم شيوع منهج التوريث، ورغم البذخ الذي عاش فيه أهل الحكم، ورغم الكثير من الجرائم وسفك دماء المسلمين بغير حق في بعض الأحيان، إلا إن الأمور ظلت بخير، وظلت الأمة قوية، بل تحقق لها الامتداد والتوسع والنهضة…

فما هي أسباب ذلك؟

١ ـ الأمر الأساسي الذي حفظ المسلمين من مآلات الملك الوراثي العضوض أو الديكتاتورية والاستبداد السياسي، هو أن هذه الأسر التي ظلت تتوارث الحكم كان تركيزها على الحكم فقط وشيئ من الثروة والوجاهة.. لكن هؤلاء الحكام لم يخنقوا الأمة بل تركوها تتحرك بحرية.. وكان الخير كل الخير والبركة كل البركة في حركة الأمة.

٢ ـ لم يقترب الملك العضوض من العلماء إلا في أضيق الحدود، إذا أحس بخطورة حقيقية وتهديد للملك، فكان العلماء يعلّمون الناس ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وينشرون ثقافة العلم والوعي والدين والقيم النبيلة ويحاربون الظلم، وكانوا حائط صد كبير تتكسر عليه كل موجات الشر التي تهدد الأمة.

٣ ـ رغم ديكتاتورية الحكم، إلا إن الشريعة كانت حاكمة مسيطرة، ولم يخطر على بال أي حاكم خرقها أو الاعتداء عليها، فضلاً عن الاستهانة بها والسخرية منها، فأبناء الحكام كانوا يتعلمون ويتربون على أيدي خيرة العلماء والمربين وكان كثير منهم من حفظة العلم وأهله بل من العلماء والمثقفين.

٤ ـ كانت كل فئات الأمة، وعلى رأسهم الحكام، وبقيادة العلماء.. الجميع متفقون على فرضية الجهاد وضرورته وأنه ذروة سنام الإسلام..

فلم تتوقف حركة الجهاد والفتوحات حتى مع الحكام الظلمة، بل كانوا هم الذين يقودون الجيوش..

فعاشت الأمة في أغلب فتراتها في منعة وعزة وانتصار.. ونتيجة الجهاد والفتوحات تدفقت الثروات وزاد الغنى وقل الفقر.

٥ ـ لم يقيّد أهل الحكم حركة الأمة فتركوها تنطلق، ففجر العلماء والمصلحون طاقات الخير في الناس.. والتي غرسها الإسلام في نفوسهم..

فبنى الناس المدارس والمعاهد العلمية والمستشفيات والأسبلة والتكايا..

وهكذا كانت الأمة هي التي تمول التعليم والصحة ولم تتكلف الدولة شيئًا في هذين الأمرين الخطيرين.

٦ ـ بتوجيهات وابتكارات الفقه الإسلامي

شهدنا «الوقف الخيري» كتجربة إنسانية لم يشهدها العالم بهذا التنطيم والكفاءة والإنسانية،

ومن حيث خطورة الدور الذي لعبته في نهضة المجتمعات الإسلامية وإقامة الحضارة..

وكان الوقف الخيري مصدرًا لتمويل المشروعات العظيمة، والإنفاق على العلم والعلماء والفقراء وأبناء السبيل،

بل وعلى الكثير من أوجه الخير، مما رفع العبء عن الحكومات والدول.

٧ ـ لأن العلماء كانوا يتحركون بحرية، ولأن الدعوة لم يكن يحدها حدود أو تقف أمامها عوائق،

ولأن الحكام رغم حبهم للسلطان إلا إنهم كانوا يحبون الإسلام أيضًا ولا يحاربونه.. لذلك كانت الرعية على نفس المستوى من الوعي..

فرأينا سيدة مسلمة تنفق على ترجمة كتاب مهم في العصر العباسي، وتتعهد المترجم بالنفقة والرعاية والمعونة،

حتى أتم مهمته وسلم الكتاب مترجمًا إلى الدولة.

  في النهاية، نستطيع أن نكتشف أهم أسباب أزمتنا الحالية، وهي:

ـ محاصرة العلماء ومراقبتهم ومنعهم من توصيل كلمة الحق ورسالة الإصلاح بل وسجنهم.

ـ الكفر بالجهاد وتحريمه ومنعه وتشويهه.. حتى في مواقف الضرورة.. فضاعت حقوق الأمة واستذلتنا الأمم.

ـ أصبح مسؤولونا وفئات منا.. يكرهون الإسلام ويحاربونه ويسخرون من الشريعة ويشوهونها ويحرضون ضدها.

ـ تقييد الجمعيات الأهلية الخيرية، والعمل التطوعي بشكل عام، وتقييد حركة الناس والأمة، وتحجيم والسيطرة على النقابات والاتحادات والنوادي ومنظمات المجتمع الأهلي الحقيقية والمخلصة والمؤثرة.

من د. منير جمعة

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين