يبدي الكيان الصهيوني الكثير من مظاهر القلق لتداعيات غياب رئيس السلطة الفلسطينية المحتمل عن ساحة الأحداث بفعل عمره المتقدم ومعاناته من المرض.

ويكاد لا يخلو تقدير إستراتيجي تقدمه محافل التقدير الرسمية للحكومة الصهيونية من التركيز على المخاوف من مرحلة ما بعد محمود عباس لما لها من تداعيات بالغة الخطورة على الأمن الصهيوني.

ويخشى الصهاينة أن يفضي غياب عباس، دون ترتيب مسار خلافته، إلى تفكك السلطة الفلسطينية وانهيارها تحت وطأة الخلافات العميقة بين قيادات حركة «فتح» والتباينات الكبيرة بينهم على خلفيات مناطقية وعشائرية وشخصية.

فضلا عن ذلك، فأن الصهاينة يعون أن مجموعة القيادات المتنفذة التي تحيط بعباس لا تحظى بأي قبول شعبي،

مما سيكون من المستحيل تأمين دعم شعبي لها يسمح ببقاء السلطة في وحد وصل أحدهم إلى قيادتها.

الأكثر من ذلك،

فأنه نظرا لفشل البرنامج السياسي لعباس القائم على المفاوضات والذي انتهى إلى ابتلاع المشروع الاستيطاني الصهيوني الأرض الفلسطيني ووصول الجميع إلى قناعة بأنه قد أسدل الستار على حل الدولتين، الذي روج له عباس؛

فأن الجمهور الفلسطيني يحمل الزمرة اللصيقة بعباس المسؤولية عما وصلت إليه الأمور؛ وبالتالي فأنه لا يمكن أن يصل أي من هؤلاء إلى موقع القيادة بقبول شعبي؛ وضمن ذلك عبر صناديق الاقتراع.

ولا حاجة للقول إن أبرز الأسماء المحسوبة على عباس ويتم تداولها هما: ماجد فرج، مدير المخابرات العامة، وحسين الشيخ،

الذي كان يعمل مسئولا عن التنسيق مع الكيان الصهيوني، ويشغل حاليا عضوية منظمة التحرير ومركزية حركة «فتح» ومكلف بملف التفاوض المجمد منذ سنين.

في الوقت ذاته،

فإن غياب عباس سيضعف بشكل تلقائي مكانة فرج، الذي تفيد التقديرات الصهيونية والأمريكية أنه شخصية ضعيفة، ومكانة الشيخ، سيما في مواجهة قيادات فتحاوية أخرى، مثل: جبريل الرجوب، ومحمود العالول وغيرهما.

هذا دون أن نتطرق إلى معسكر محمد دحلان الذي ينشط في قطاع غزة ويحوز على مناطق نفوذ نائمة في الضفة الغربية.

ولكن حتى لو افترضنا جدلا أن حركة «فتح» ستتوافق على شخصية لخلافة عباس، فأن هذا لن يضمن توفير دعم شعبي لها؛

حيث أن استطلاعات الرأي المتواترة التي تجريها مراكز بحث مستقلة تفيد بأن القيادي الفتحاوي

الذي يحظى بدعم جماهيري كبير هو مروان البرغوثي، الذي يقضي حكما بالسجن المؤبد في سجون الاحتلال.

مع العلم أن الكيان الصهيوني تحت حكم اليمين لا يمكن أن يوافق على الإفراج عن البرغوثي حتى لو كان المقابل الحفاظ على بقاء السلطة الفلسطينية.

ومن نافلة القول إن الكيان الصهيوني الذي يحتل الضفة الغربية

لن يسمح بأي مخاض ديموقراطي يفضي إلى سيطرة حركة حماس على السلطة الفلسطينية

عبر صناديق الاقتراع بعد تجربة حكمها في قطاع غزة.

من هنا،

فأنه في ظل تهاوي فرص صعود قيادة جديدة لمنظمة التحرير والسلطة بعد غياب عباس، فأن انهيار السلطة وتفككها يعد الاحتمال الأكثر واقعية.

وهذا احتمال يزعج الكيان الصهيوني كثيرا لأنها تجاهر بأن بقاء هذه السلطة يعد مصلحة إستراتيجية لها من الطراز؛

حيث تمنح سلطات عباس الكيان الصهيوني أرخص احتلال على وجه الأرض.

فالسلطة تتكفل بتحمل المسؤوليات التي يفترض أن يتحملها الكيان الصهيوني بوصفه كيان يمارس الاحتلال،

وتحديدا توفير متطلبات الحياة والخدمات للشعب الواقع تحت الاحتلال؛

حيث تقدم الدول المانحة للسلطة الدعم الذي يضمن بقاءها.

في الوقت ذاته، فأن السلطة الفلسطينية، التي تتعاون أمنيا مع الكيان الصهيوني توفر بيئة تسمح ببقاء الاحتلال وضمن ذلك تعاظم المشروع الاستيطاني بأقل كلفة.

وقد عبر عن ذلك بشكل صريح وزير الحرب الصهيوني بني غانز في أعقاب لقائه الأخير بعباس؛

حيث أقر بأنه بحث مع عباس قضيتين أساسيتين؛ وهما: التعاون الأمني وسبل مواجهة حركة حماس.

وبالتالي؛

فأن انهيار السلطة في أعقاب غياب عباس سيمثل تحديا إستراتيجيا هائلا لإسرائيل؛

سيما وأنه سيترافق مع حالة الانسداد السياسي وتواصل الاستيطان والتهويد وتغول نخب الحكم اليمينية في تل أبيب؛

التي تتماهى مع قواعدها الانتخابية عبر تبني سياسات متطرفة،

سواء على صعيد السيطرة على الأرض والمس بالمقومات التي تضمن بقاء الفلسطينيين على أرضهم.

من هنا، فأن هناك ما يدل على أن بعض نخب الحكم في الكيان الصهيوني تتجاهل ما أشرنا إليه سابقا

من عدم امتلاك مقربي عباس الحاليين ما يؤهلهم لخلافته وتعمل على من وراء الكواليس على محاولة تعزيز فرص بعضهم؛

سيما حسين الشيخ؛ الذي لا يرافق عباس فقط في اجتماعاته مع القيادات الإسرائيلية؛

بل بات يتم تكليفه بعقد لقاءات مباشرة مع المسئولين الصهاينة؛

كما حدث مؤخرا عندما التقى وزير الخارجية الصهيوني يئير لبيد في منزله.

وعلى ما يبدو،

أن الكيان الصهيوني يحاول الاستعانة بخدمات نظم حكم عربية في محاولة ترتيب الأوضاع في حركة «فتح» والسلطة الفلسطينية؛

بحيث يتم ضمان بقاء السلطة وعدم تفككها في حال غاب عباس عن المشهد.

فهناك مصلحة مشتركة لكل من الكيان الصهيوني ونظم الحكم العربية في المنطقة بعدم السماح بتوفير واقع فلسطيني يمكن الإسلاميين وتحديدا حركة حماس من مراكمة القوة والنفوذ؛

خشية أن يؤثر مثل هذا السيناريو سلبا على مكانة نظم الحكم هذه في بلادها.

وعلى الرغم من أن نظلمي الحكم في مصر والأردن قد بذلا جهودا علنية ومباشرة لتوحيد حركة “فتح” تحسبا لغياب عباس؛

إلا أن هذه الجهود باءت بالفشل بسبب الهوة الواسعة التي تفصل مراكز القوى والنفوذ داخل «فتح».

من هنا،

يمكن القول إنه لا يوجد ما يدل على أن تعاون الكيان الصهيوني ونظم الحكم العربية يمكن أن يغير الواقع الداخلي لحركة «فتح»؛

سيما وأن الصهاينة غير معنيين بتقديم أي مقابل سياسي يمكن أن يعزز مكانة قيادات «فتح» المريحة لنظم الحكم العربية.

اللافت أن النخب الإعلامية الصهيونية تدرك وتحذر من أن مجرد وقوف الكيان خلف مرشح ما لخلافة عباس

فإن فرص هذا المرشح ستتهاوى فورا.

ففي مقال نشرته صحيفة «معاريف» مؤخرا لفت جاكي حوكي، معلق الشؤون العربية في إذاعة جيش الاحتلال إلى حقيقة

أن مجرد الاحتفاء الإسرائيلي بحسين الشيخ سيحول دون تمكنه من خلافة عباس،

لأن هذا سيجعله متهما في نظر عموم الفلسطينيين.

وحسب حوكي،

فأن مواقف الشيخ المؤيدة لتسوية الصراع سلميا والمعادية لحركة حماس تقلص من فرصه توليه مقاليد الأمور بعد عباس.

وشبه المعلق الصهيوني رهان إسرائيل على الشيخ برهانها في حينه على جمال نجل الرئيس المصري السابق حسني مبارك؛

حيث انطلقت دوائر صنع القرار في تل أبيب في حينه بأن جمال سيكون الرئيس المصري القادم.

لكن ما تقدم يجب ألا يمثل مسوغا للاطمئنان لدى حركات المقاومة وقوى الشعب الفلسطيني الحية.

فيجب عدم الرهان على عدم أهلية المحيطين بعباس لأهليته والانطلاق من افتراض بأن الكيان الصهيوني

ونظم الحكم العربية ستكون عاجزة عن تنصيب خليفة له.

فعلى القوى الفلسطينية

أن تستعد لملء الفراغ الكبير الذي سيتركه انهيار السلطة الفلسطينية المحتمل

بعد اختفاء عباس عبر صياغة خطط وتصورات

وإجراء مشاورات مسبقة للتوافق على خارطة طريق تسهم في فرض قيادة تمثل الشعب الفلسطيني بحق

وتكون وفية لخياراته وتكون على قادرة على تحمل مسؤولية مواصلة الجهاد والنضال من أجل التحرير وانهاء الاحتلال.

على الجميع أن يعي أن أي سيناريو يفضي إلى سيادة الفوضى في الضفة الغربية وقطاع غزة سيخدم في النهاية المصالح الصهيونية؛

على اعتبار أن الفوضى تعطل مصالح الجماهير إلى أمد بعيد وتفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية سوءا،

وهو ما يسهم في تقليص مستوى تطلعات هذه الجماهير بشكل يجعلها تكون مستعدة لقبول أية صيغة حل تخلصها من هذا الواقع

ولو كانت ضمن عودة القيادات المحسوبة على عباس والمريحة للكيان الصهيوني.

من د. سعيد عيادي

أستاذ علم إجتماع المعرفة بجامعة البليدة، الجزائر