قبل أسابيع قليلة رحل في لوس أنجلوس الروائي الإيراني “إيراج بيزشكزاد” عن عمر بلغ 94 عاما، وهو الذي اشتهر بروايته “عمي نابليون” التي نالت استحسان النقاد الإيرانيين وغيرهم كظاهرة ثقافية بما احتوته من نقد اجتماعي وهجاء جعلها تحفة من الأدب الفارسي المعاصر، وأصبحت شخصياتها وقصتها مرجعية في خيال كثير من الإيرانيين وسواهم من القرّاء الذين قرؤوا الرواية المترجمة بالإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية وغيرها.

الروائي الإيراني إيراج بيزشكزاد الذي توفي عن 94 عاما في لوس أنجلوس الأميركية 

الهجاء والمراوغة الأدبية

كان إيراج بيزشكزاد (1928-2022) مؤسسة إيرانية؛ نشأ جيل كامل من الإيرانيين على روايته الساخرة ذات الشعبية المذهلة “عمي نابليون”، وفي المدة الأخيرة تُرجم كتاب آخر لبيزشكزاد “حافظ في الحب” إلى اللغة الإنجليزية، لكن عددا كبيرا من كتبه لا يزال مختبئا في اللغة الفارسية الأصلية والعالم بأسره غير مدرك لوجودها.

وُلد إيراج بيزشكزاد في عائلة من الطبقة المتوسطة في طهران في عشرينيات القرن الماضي، أكمل تعليمه المبكر في إيران وتوجه إلى فرنسا لدراسة القانون، وعاد في النهاية إلى وطنه ليعمل في وزارة الخارجية.

ومثل معظم الأدباء الإيرانيين الآخرين، كان عليه أن يكسب لقمة العيش من القيام بشيء آخر، لكن كتابة الهجاء كانت موهبته، وسرعان ما ظهر كواحد من أفضل الكتّاب الساخرين في وطنه.

الصعود إلى قمة المؤسسة الأدبية للهجاء الفارسي والبقاء هناك بارتياح من دون مزاحمة على مر عقود ليس بالأمر الهين. ففي الواقع، من بين الشخصيات البارزة من الماضي البعيد، مثل سعدي وعبيد زكاني، ومن الأحدث البارزين مثل علي أكبر دن خوده وإيراج ميرزا​​، فإن بيزشكزاد يظل في مكان بارز بينهم.

فن الضحك على نظريات المؤامرة

تدور أحداث كتاب عمي نابليون، لـ بيزشكزاد، في طهران في أوائل الأربعينيات إذ كانت البلاد في طريق التحديث، وأثناء احتلال الحلفاء لإيران. وتجري الأحداث في الغالب في منزل الراوي المجهول، وهو مجمع ضخم تعيش فيه 3 عائلات تحت طغيان رجل مصاب بجنون العظمة.

خدم الرجل “البطريرك” مدة وجيزة في الجيش لكن شكوكه الشديدة وعداوته للبريطانيين جعلاه متعاطفا مع الإمبراطور الفرنسي نابليون ويختلق قصصًا عن المعارك التي قادها مع الجيش البريطاني لتحرير إيران، ولذلك أصبح يُلقب بـ”العم نابليون”. وتدور الرواية بين الجغرافيا السياسية للمنطقة والسياسة الأوروبية والاستعمار البريطاني، ويأتي الجميع إلى منزل هذه العائلة الممتدة للعب في صفحات رواية بيزشكزاد.

عقب وقت قصير من مغادرة دباشي إيران إلى الولايات المتحدة في عام 1976، حوّل المخرج البارز ناصر تقفاي “عمي نابليون” إلى مسلسل تلفزيوني ناجح بشكل استثنائي. كان “التكييف” التلفزيوني ناجحا جدا لدرجة أنه ولّد جيلا جديدا بالكامل من المعجبين المتحمسين للقصة وشخصياتها الغنية والمعقدة، بخاصة بطل الرواية الفخري العم نابليون، وخادمه الشخصي المتملق ماش قاسم، والراوي، وهو طالب في المدرسة الثانوية يعيش حالة حب مع ابنة عمه، ابنة العم نابليون.

وبعد سنوات من بث المسلسل، في عام 1996، وجدت تحفة إيراج بيزشكزاد حياة جديدة وجمهورا جديدا عندما ترجمها ديك ديفيس بمهارة إلى اللغة الإنجليزية. وسرعان ما تبعتها ترجمات أخرى وخلقت تدريجيا مجتمع قرّاء جديدا للرواية، يتكون في الغالب من الجيل الثاني من المهاجرين الإيرانيين في الولايات المتحدة وأوروبا وخارجها.

وهكذا حظيت الرواية بمراحل من الشعبية في عصور مختلفة إلى حد كبير منذ أوائل السبعينيات حتى يومنا هذا، لكن هناك مسافة عاطفية تفصل بين هذه المراحل. يقول الكاتب “عندما كنا نقرأ الرواية على مراحل في أوائل السبعينيات لم يكن لدينا أي دليل على أن الثورة ستقلب البلد بأكمله رأسا على عقب، ولكن بحلول الوقت الذي نُشرت فيه في شكل كتاب، ظهر تكييفه التلفزيوني اللاحق، وأصبحت القصة أمام جمهور جديد، سمعت صرخات الثورة الأولى بصوت عال في جميع أنحاء إيران.”

وعندما ظهرت الترجمة الإنجليزية للرواية في عام 1996، لم تكن الثورة حتى ذكرى بعيدة، بل كانت مجرد حقيقة تاريخية لمعظم قرائها الجدد. لذلك، هناك طبقات أثرية من المعرفة الاجتماعية داخل هذه الرواية الأيقونية وحولها”.

وما يجعل المعرفة الاجتماعية حول الرواية متسقة في حركاتها المتنوعة هو السخرية من الهوس الإيراني بنظريات المؤامرة، بخاصة الإكراه الناشئ عن الصدمة الذي يتشاركه العديد من الإيرانيين للاعتقاد بأن البريطانيين هم وراء كل شيء وأي شيء يحدث خطأ في بلادهم

صحيح أن البريطانيين بالفعل كانوا وراء كثير من الأشياء، بما في ذلك وصول رضا شاه إلى السلطة وانقلاب المخابرات عام 1953 لذا يمكن إعفاء الإيرانيين من بعض التفكير التآمري، لكن رواية بيزشكزاد كما أنها لا تنكر المؤامرات الاستعمارية البريطانية ضد إيران ومنطقتها فهي لا تسمح أيضا للهوس الإيراني بنظريات المؤامرة بأن يندلع من دون موازنة حبكة سردية أكبر ومجموعة من الشخصيات تضع تلك الأفكار في حجم واقعي.

ويتابع الكاتب أن هذا الانشغال بنظريات المؤامرة لا يقتصر بالطبع على الإيرانيين ولا على أي دولة أخرى، فالأميركيون لديهم نصيب كبير من نظريات المؤامرة بما في ذلك المتعلقة باغتيال جون كينيدي، إلى أحداث 11 سبتمبر، والانتخابات الرئاسية التي أطاحت بدونالد ترامب.

وحقيقة أن هذه الرواية الإيرانية تسخر من الهوس الوطني بالبريطانيين لا تعني أن البريطانيين لم يكونوا السبب الرئيس للكارثة في التاريخ الإيراني الحديث، وإنما ترسم الرواية فقط صورة كوميدية لكنها صادقة أيضا لجانب واحد من التاريخ والهوية الإيرانية.

———-

المصدر : الجزيرة