(في المتاهة…!!)

عندما تنتكس الفطرة، وتختلط المقاييس، ويصبح المعروف منكرًا، والمنكر معروفًا، ويتيه الإنسان عن خير الخيرين، فيختار أعلاهما، ويغفل عن أشر الشرين، فيجتنب أشرهما؛ تتعجب من اختيارات وتصرفات هذا (الإنسان)، وتنظر إليه وأنت تتساءل: كيف فعل هذا؟ كيف أورد نفسه المهالك؟! كيف غفل عن تحصيل (سعادته)، واتخذها وراءه ظِهريا؟!

عندها تعرف السر في قوله تعالى (إنها لا تعمى الأبصار)، فالعين الباصرة ترى وتشاهد، لكنها في الحقيقة لا تُبصر، وتسير لمهلكها، وربما تظن أنها تُحَصِّل (الحقوق)،

أو تجتنب (العلاقات الضارة)، أو تبني على (توهمات) تراها يقينية، وهي في الحقيقة أقصى ما يمكن أن يقال فيها أنها (احتمالات)، لا ينبني عليها عمل!

تعتقد في نفسها (المكر والدهاء) في فهم الأفعال وتوصيفها وتكييفها، وتُبدع في (الماورائيات)، وتخمينها، حتى إنها تعتقد أن هذا التخمين (حق)، و(يقين)، لا يقبل الجدل والنقاش!

فأي غَبَنٍ أوردته هذه النفس البئيسة ذاتها؟!! وقد اختارت الدنيا على الدين، أو (المال) على (الحب)، أو (المصلحة) على (الصداقة)،

فتضحي بذاتٍ تحب وتحرص، في سبيل مال متوهم، ولن تحصله، أو تتركه من أجل أنها لا تستطيع (التغير) الجزئي للملائمة،

أو لتوهم الاختلاف، أو لطلب (يوتوبيا السعادة) التي لا توجد إلا في (الأوهام)، وعقول (السندريلات)…

وقد تستمر هذه الذات (التائهة) إلى حتفها الأخير،

وإن كان هذا قليل، فقد تمر أيام، أو شهور، وقد تمر السنين الطوال حتى تبدو عورات هذا الاختيار المهلك، لكن الرجوع فيه هو المشكل الثاني للذات الهالكة!

أما مَنْ ستستمر إلى حتفها فسيكون موعدها عند منادي (فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد)! ولا يكون هذا إلا في يوم (العض)!!:

(يوم يعض الظالم على يديه)!!! فأي لوم للذات وجَلْدها لأعضائها أكثر من أنها تؤذي أبعاضها!

وتبدو الإشكالية في الرجوع والعودة لمن تنبه وأفاق، فبعضهم تأخذه (العزة بالإثم)! فيرى، ويعرف، ولا يرجع!

وبعضهم (يعتاد) التيه، ويألفه مع تطاوله، فيرى أن الفرق بينه وبين الاستقامة والاختيار الصائب: قريب! فيستمر في غيّه.

وبعضهم يرجع فور استشعار الهَلَكة، فيهرع للرجوع والإياب: (ثم يتوبون من قريب) فكان أجره (حتمية) القبول، وبركة الرجوع (إنما التوبة على الله…)، دون أن تعليق على لفظ (عسى) كما هي في مطلق الرجوع: (عسى الله أن يتوب عليهم)..

أيتها النفس التائهة! عودي إلى رشدك، وارجعي عن غيّك، فإن قومًا انتكست فطرتهم، واختاروا الأدنى،

فعاقبهم الله في الدنيا بالتيه في الأرض أربعين سنة (قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة، يتيهون في الأرض)،

وقد ينقضي الأجل، وأنت ما زلت.. في المتاهة!!