بعد أنْ قصصتُ واقعةً تمَّت قي بيت الوالد، وكنتُ يومها في الثامنة من عمري أو يزيد، وقلتُ بعد سردها:

إني أرى هذا الرجل الذي زارنا وأخبرنا عن أشياء وقعت كما أخبر بعد سنوات طويلة،

ثم خرج من بيتنا واختفى، لعله الخضر، فقام جمْعٌ من قليلي العلم فهاجوا وماجوا ونفوا بشدة حياة الخضر.

وهأنا أرد على مزاعمهم واحدة تلو الأخرى..

قالوا: صح عن نبينا أنه قال: «أَرَأَيْتَكُمْ لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ، فَإِنَّ رَأْسَ مِائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا، لاَ يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ أَحَدٌ»..

قلتُ: الحديث صحيح، ولكن له استثناءات بدليل:

الدَّجال حيٌّ وهو مُقيّد في جزيرة كما في صحيح مسلم وغيره عن نبينا.. والجزيرة من الأرض وليست من البحر..

 ذهب جمع من الشُّرّاح إلى أنَّ كلام النبي موجه للصحابة لاستغلال حياتهم في الصالحات وذلك بسب قِصر أعمارهم..

منهم ابن بطّال في شرحه للبخاري،

وابن قُتيْبة في كتابه ( تأويل مختلف الحديث) والعَيْني في شرحه للبخاري،

والقَسْطلّاني في شرحه للبخاري وغيرهم..

وقالوا: هذا حديث عام أريد به الخصوص وهم أُمته.. فالملائكة لا تخلو منها الأرض، لا يموتون بعد مئة سنة، وكذا الجن..

أو لعل الخضر لم يكن وقتها على وجه الأرض..

وقد صح عن نبينا أنَّ الحبة السوداء شفاء من كل داء.. ثم أمر بالعسل والحجامة والقسط الهندي..

فلماذا هذا والحبة السوداء شفاء؟

هذا ما يعرف في الأصول: بالعام المراد به الخاص.

وقالوا: لو كان الخضر حيا لجاء إلى النبي واتبعه..

قلتُ: وما يدريك أنه جاء وآمن بنبينا واتّبعه، وقاتل معه، ولم يره أحد من الصحابة؟

وقد حدث معي فقد كنتُ أراقبه أنا ووالدي كيف يقطع الوادي، وقطعها وما رأيناه البتة.

قال ابن الصلاح والنووي: إنَّ جمهور أهل العلم على حياة الخضر..

وَقَالَ الثَّعْلَبِيُّ الْمفَسِّرُ: الْخَضِرُ نَبِيٌّ معَمَّرٌ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ مَحْجُوبٌ عَنْ أَبْصَارِ أَكْثَرِ النَّاسِ.

ولابن تيمية قولان في حياة الخضر..

قول بأنه حيّ.. وقول بأنه ميت..

وكان الحافظ الكبير معمر بن راشد المولود سنة ٩٥ هجرية يقول بحياته..

وقد حكم ابنُ حجر على سند بأنه جيد من أن ابن عمر سمع رجلا أمر بائعاً بالصدق ونهاه عن الكذب ثم اختفى.. فقال ابن عمر: إنه الخضر.. ( الإصابة)

ونقل ابن حجر عن أبي نعيم ويعقوب بن سفيان أنهما رويا أنَّ رجلاً كان يمشي مع عمر بن عبد العزيز،

فسُئل عمر عنه فقال: إنه الخضر جاء ليُخبرني بأني سأتولى الحكم وأعدل.

ثم قال ابن حجر: هذا أصلح إسناد وقفت عليه في هذا الباب. ( الإصابة).

وصححه ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة، وأمالي محمد أنور شاه في شرحه للبخاري.(فيض القدير).

وقال ابن حجر:

وأخرج ابن عساكر في ترجمة أبي زرعة الرازيّ (وهو من كبار الحفاظ وأئمة الجرح والتعديل وعلى عقيدة أهل الحديث) بسند صحيح إلى أبي زرعة أنه لما كان شابّا لقي رجلاً مخضوباً بالحِنّاء،

فقال له: لا تدخل أبواب الأمراء، قال:

ثم لقيتُه بعد أن كبرت وهو على حالته، فقال لي: ألم أنهك عن غشيان أبواب الأمراء،

قال: ثم التفت فلم أره، فكأنّ الأرض انشقت فدخل فيها، فخيّل لي أنه الخضر.

وفي صحيح مسلم:

يَأْتِي الدجال وَهوَ محَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ، فيتحدى بأنه سيقتل شخصاً ثم يحييه وفعلاً يقتل ويحيي..

ثم قال أَبُو إِسْحَاق وهو الحافظ إبراهيم بن سفيان راوي صحيح مسلم: «يقَالُ إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ هوَ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ».

ونقل هذا أيضا الحافظ ابنُ حِبّان في صحيحه عن معمر بن راشد المولود سنة 95 هـ.

الإيمان بحياة الخضر ليس من أركان الإيمان ولا شروطه ولا صحته..

فهذه روايات صحيحة عن أئمة وعلماء قالوا بحياة الخضر، وليس القول بهذا مما انفرد به الصوفية، وليس من الخرافات ولا الأوهام..

,ومن العيب والجهل أنّ الأصاغر يتطاولون على الأكبار بجهلهم، ويسخرون ويستهزئون..فإنما شفاء الجاهل السؤال..

من محفوظ الرحمن

باحث وكاتب، بنغلاديش