يوميات عارف العارف في إمارة شرق الأردن ١٩٢٦-١٩٢٩

كانت فلسطين أكثر تطورا من الأردن في النصف الأول من القرن العشرين، حيث كان التعليم فيها أفضل، ومظاهر التمدن أوضح، وكانت كبار العائلات الأردنية توفد أبناءها إلى فلسطين، وخاصة مدينة القدس، للتعلم، كما كانوا يقضون فيها إجازاتهم حتى ولو كانت أياما قليلة. ولهذا لم يكن مستغربا أن تستعين إمارة شرق الأردن الوليدة ببعض كبار موظفي الإدارة في فلسطين لمساعدتها في تنظيم شؤون الإمارة، ومن هؤلاء رجل الدولة العروبي عارف العارف الذي اُنتدب إلى عمّان سكرتيرا عاما وعضوا في مجلسها التنفيذي الذي يعادل مجلس الوزراء.

قضى العارف في دواليب الحكومة والبلاط الأميري ثلاثة أعوام (١٩٢٦-١٩٣٦)، كان يلتقي خلالها شبه يوميا بالأمير عبد الله بن الحسين، مؤسس الإمارة، وبرئيس النظار، والمندوب البريطاني، وقائد الجيش البريطاني، وغيرهم من كبار رجال الدولة، كما التقى أيضا برموز الحركة الوطنية الوليدة من سياسيين وشيوخ عشائر ورجال في الحكومة كانوا يعملون سرا لمناهضة الوجود البريطاني وتحفيز الشعب للضغط من أجل إقرار دستور وإجراء انتخابات، وكان عارف العارف يسجل يومياته فيوثق فيها ما يستحق التوثيق من وجهة نظره، ويبدي فيها رأيه فيما تشهده البلاد، رأيا صريحا لأنه كان يعتقد أنها يوميات سرية لن يطلع عليها أحد ولن تنشر، ومن هذه الصراحة تنبع أهميتها، وبالفعل لم تنشر إلا بعد وفاته ووفاة أغلب من جاء على ذكرهم فيها.

تقرأ هذه اليوميات، التي نشرها هذا العام المركز العربي للأبحاث، فتصاب بغصة وتشعر بالألم لما كانت عليه أوضاع بلداننا العربية والإسلامية من ذل ومهانة تحت الانتداب البريطاني، ومن خزي وعار لما كان يفعله بها أذناب الاستعمار وعملاؤه من أكبر كبير لأصغر صغير.

يقول عارف العارف مثلا عن الأمير بعد توقيعه على قانون النفي والإبعاد الذي أملاه عليه المحتل البريطاني للتنكيل بالمعارضين لهذا الاحتلال: … وقد وقّعه – طبعًا – الأمير عبد الله الذي أمر بتنفيذه فور نشره في الجريدة الرسمية، دونما حاجة للانتظار شهرا، [كما جرى العرف]، قلت طبعًا، لأن الأمير هو آلة صمّاء تحرّكها دار الاعتماد من وراء ستار، وهو – في ملتي واعتقادي – مصدر الداء وأصل كل بلاء حلّ بنا في هذه الديار! (ص ٢٢٥-٢٢٦).

وفي مناسبة أخرى يذكر العارف قول الأمير عن نفسه في لحظة صدق وهو يراجع ماضيه وكيف بدأ مقاوما للبريطانيين ثم ما وصل إليه حاله من ضعف وهوان “أنا أجبن من نعامة…” (ص ٢٢٨).

وحينما أراد الأمير تعليم ابنه نايف في روضة المعارف الوطنية بالقدس حتى يشب على حب العروبة والإسلام رفض المعتمد البريطاني ذلك وأصر على أن يتعلم في مدرسة سان جورج، أو مدرسة المطران بالقدس، أو يرسله إلى انجلترا ليتعلم في مدارسها، فحزن الأمير واهتم وقال بحسرة “سبحانك ربي، انهم حتى في شؤوننا الخاصة وفي تعليم أبنائنا يريدون فرض إرادتهم علينا!” (ص ١٢٦-١٢٧).

وما قاله العارف عن الأمير من النُبَذ التي أوردناها واكتفينا بها عن عشرات تشبهها ذكرَ أيضا الكثير والكثير عن ضعف وجبن وعمالة كبار رجال البلاط من ذلك مثلا المستشار الخاص للملك، فؤاد الخطيب، حيث يقول العارف “قضيت السهرة الليلة الفائتة مع الأمير في قصره. ولأول مرة يعترف لي الأمير أنه لا يثق بالشيخ فؤاد الخطيب، مستشاره الخاص؛ إنه إنكليزي النزعة، ولقد أقامه الإنكليز في القصر خصيصًا لينقل إليهم أخباره، وليتتبع حركاته وسكناته. هذا ما قاله لي الأمير أمس” (ص ١٣٥).

وما قاله عن فؤاد الخطيب قال مثله عن الباشا رئيس النظار حسن خالد أبو الهدى، الذي وصفه بالضعف والجبن والكذب والنفاق في غير موضع بيومياته.

وهكذا، تصف تلك اليوميات الأوضاع السياسية والاجتماعية فتتحدث بهذه النظرة السلبية عن هذا الصنف من الرجال وتتحدث بإيجابية عن صنف آخر لا تخلو منه بلد من البلدان وهم الوطنيين الأحرار من بعض الشخصيات العشائرية والإدارية والفكرية الأردنية والفلسطينية والسورية واللبنانية الذين جمعتهم العروبة ولم تفرقهم القُطرية، والذين تكونت على أيديهم الحركة الوطنية الأردنية، ومن هؤلاء محمد علي بك العجلوني، وبهجت طيّارة، وعبد الله الحمود الخصاونة، ومحمد الحمود، وعبد الرحيم الخطيب.

ويخرج قارئ يوميات عارف العارف بانطباع مؤداه أن أزمة الدولة العربية المعاصرة بدأت منذ لحظة النشأة الأولى ولا تزال تلازمها، حيث لم يخرج الاستعمار إلا وهو متأكد أن خلفه من اصطنعهم وربّاهم على عينه، وأن التبعية ستظل تلاحق هذه الأمة ما لم يتول أمرها «الْقَوِيُّ الْأَمِينُ»

من د. حسين شحاتة

خبير استشاري في المعاملات المالية الشرعية