إنّ مفهوم الخدمة لا يقوم على أن يقدّم المرء للآخرين العطاء وهو متجّهم الوجه، متثاقل الروح؛ فالخدمة عطاء روحي وقلبي قبل أن يكون فعلاً جسدياً..

ثم إنّ قضاء حوائج الناس صفة وخلّة شريفة اتصف بها كثير من الأنبياء.

حسبك بموقف موسى عليه السلام يسقي للمرأتين حيث قال تعالى:

{وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا

قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ فَسَقَى لَهُمَا ثمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}

(القصص: 23 – 24).

ومن قرأ كتب التراجم والسير سيجدها مليئة بأفعال العلماء بالخدمة للناس، وقضاء حوائجهم، والسعي فيها والسير بين الناس لتلبية مطالبهم.

حسبك بقولهم: «وكان يسعى بمصالح إخوانه».

فتأمّل! ليس لنفسه حظٌ ونصيب؛ إلا أن يخدم إخوانه ويسعدهم.

فهذا حسن بن أبي عبد الله الصقلي المقرئ؛

كان من السادات في تعبده وزهده وإعراضه عن الدنيا وأهلها وتقلله منها

مع قدرته على السعي في المناصب وغيرها وكان مثابراً على قضاء حوائج الناس يسعى فيها بنفسه.

وهذا الرئيس المبجل المهذب محمد أفندي باش فقط كان لطيف الطبع سليم الصدر محبوبا للناس،

مشهوراً بالذوق وحسن الأخلاق مهذبا في نفسه متواضعا يسعى في حوائج اخوانه وقضاء مصالحهم المتعلقة بدفاترهم قانعا بحاله.

وكان أبو المظفَّر سبط الإمام ابن الجوزي لديه صلة بالأكابر من الأمراء

مع انقطاعه عن الطمع بأيديهم بل كان يُسخِّرُ صلته بتلك الطبقة لقضاء حوائج الناس ونَفعهم قدر المستطاع،

فقد زارهُ العلامةُ ابنُ الصلاح ذاتَ يوم في مَسكنهِ على ثورا، ورجاه أن يطلبَ من الملك المعظَّم عيسى أن يولِّيه مدرستَه،

مع علمه أن المعظَّم غير راضٍ عنه،

فما كان من أبي المظفَّرِ إلا أن بادر إلى الملك المعظَّم يَستعطفه ويُطيِّبُ خاطره على ابنِ الصلاح حتى وَلّاهُ تلك المدرسة،

وكذلك سعى عنده للسيف الآمدي حتى فوَّضَ إليه أمرَ المدرسة العزيزية،

وكثيرًا ما كان يَسعى في إطلاق مَن سجنَ ظلمًا كما فعل مع أمةِ اللطيف خادمة ربيعة خاتون.

وهذا يَحْيَى بِالْعَدَّاسِ

كَانَ مِنَ الصَّالِحِينَ لَا يَعْرِفُ مِنَ الشَّرِّ شَيْئًا بَلْ كَانَ مَعْجُونًا مِنَ الْخَيْرِ يَسْعَى أَكْثَرَ أَوْقَاتِهِ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ النَّاسِ لَا لِعِلَّةٍ وَطَمَعٍ بَلْ رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ.

وكان علاّمة النحو ابن النّحاس يسعى في حوائج الناس ويقضيها.

ومحمد بن يوسف بن عبد الله الجزري المعروف بابن الحشّاش،

وشمس الدين ابن الخطيب كان فيه مروة وكرم أخلاق على الإطلاق، يسعى في حوائج الناس بنفسه، ويبذل جاهه لمن يقصده، ويسعفه بأربه.

وكان ابن دقيق العيد مطّرحاً للتكلُّف كثير السَّعْي فِي قَضَاء حوائج النَّاس على سمت السَّلف.

وَكَانَ عَلَاء الدّين فَاضلا محسنا إِلَى النَّاس حسن الشكل والعمامة والملبوس قوي النَّفس وبيته مجمع الْفُضَلَاء وَكَانَ يسْعَى فِي حوائج النَّاس ويقضيها .

وكان قوام الدين عبد الله بن أحمد الطوسي حسن المحضر يسعى في قضاء حوائج الناس.

وكـان حمزة محمد بصنوي يتحلى بمكانة اجتماعية مرموقة في مكة المكرمة. وكان يسعى للخير دائما، ويقضي حوائج الناس..

يصعد جبال مكة المكرمة حتى وهو في حالة مرضه، لقضاء مصلحة لأرملة أو عجوز، أو توصيل حق لأيتام.

وكان أبو عبد الله الفرّاء محمد بن إبراهيم بن أبي يعلى،مشهورا بالصلاح والخير، على طريقة حسنة ساعيا في حوائج الناس.

ومن أحسن ما نًقِلَ ميمون بن مهران قال: كنت في سَمَر عمر بن عبد العزيز ذات ليلة؛ فقلت: يا أمير المؤمنين! ما بقاؤك على ما أرى؟!

أنت بالنهار مشغولٌ في حوائج الناس، وبالليل أنت معنا ها هنا،ثمّ الله أعلم بما تخلو به.

قال: فعدل عن جوابي،ثم قال:

إليك عني يا ميمون فإني وجدتُ لقاء الرجل تلقيحاً لألبابهم.

فجزاهم الله خيراً فقد كان السادة العلماء على بذل الخير للخلق أعواناً كما كانوا على نشر علم الحق أعواناً…

سلك الله بنا سبيلهم وهدانا للخير والحق.