قَدَرُ الله تبارك وتعالى وعلمه اليقيني لا يُغَيِّر من حرية إرادة الإنسان،

فالإنسان مخير في أفعاله وأقواله (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (وهديناه النجدين)

أي طريقي الخير والشر، ولله المثل الأعلى، فإذا كان الأب حصيفا حكيما، ورأى من ابنه ميلا وتفوقا في الرياضيات مثلا،

والهندسة الفراغية وحساب المثلثات والتفاضل والتكامل ونحوها، فقد (يتوقع) أن يكون ابنه مستقبلا مهندسا ماهرا،

وكلما زاد علم هذا الأب وخبرته بالحياة كلما كان هذا (التوقع) قريبا من الصواب والصحة، فإذا (صادف)

 وصدق حدس الوالد والتحق ابنه بكلية الهندسة وأبدى تفوقا فيها فلا يمكن الزعم بأن أباه عندما (علم وتوقع)

هذا الاختيار من ابنه أنه فرض عليه دخول كلية الهندسة،

بل لا تعارض بين حرية الابن في اختيار كليته، وبين توقع هذا الأب الحكيم الحصيف..

ولله المثل الأعلى.. فإن (علم) الله تبارك وتعالى في الأزل باختيار العباد لا يعني فرض هذا الخيار عليهم،

والفرق بين (توقع) الأب وبين (علم) الله تبارك وتعالى أن توقع الأب قد يصدق وقد يخيب، بحسب حدسه وحكمته وخبرته،

بينما (علم) الله تبارك وتعالى يقيني حتمي، ليس من جهة فرض الخيار على الإنسان أو المكلف؛

وإنما من جهة ربوبية الباري تبارك وتعالى وقيوميته وعلمه الذي يحيط بمخلوقاته،

فالقدر حق وحتم، والحرية إرادة واختيار، ولا تتنافى أو تتعارض حتمية قدر الله وحرية المكلف،

لأنه تعالى يعلم ما كان وما سيكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون!

ولولا حرية المكلف ما كان هناك جزاء ولا عقاب ولا فوز ولا جائزة، فالمختار هو من يكافأ ويجازى،

وأما المسير أو المجبر فلا سبيل لثوابه أو عقابه، ولهذا كان الملك خادما للإنسان الصالح في الآخرة، لأن كلاهما تلبَّس بالعمل الصالح الموافق لمراد الباري،

لكن أحدهما وافق هذا المراد عن اختيار وحرية، وهو الإنسان، وأما الآخر فوافقه عن جبر وتسيير، لأن الملائكة

 (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون)

وفي الحقيقة فإن حرية الإنسان هي ما يجده ويستشعره من نفسه، فالجدل فيها يخالف وجدان النفس ومحسوسها،

فأنت تستطيع الوقوف الآن، ومن ثم تجلس، وتستطيع الخروج إلى جهة ما، وتقابل أشخاص بعينهم، وتتزوج من فتاة بعينها،

فالجدل في هذه القضية يخالف وجدان النفس ومحسوسها بحريتها، ولا يصح الجدل فيما هو مستقر ومحسوس،

ومع ذلك فلا مصادرة على البحث والسؤال من جهة آلية أو ميكانيكة العلاقة بين محسوس الإرادة الحرة، ومعتقد الإيمان بالقدر.