الهجرة النبوية حدث هام في تاريخ الدعوة، حدث تجاوز حدود رحلة وانتقال عادي يقوم به سائر البشر،

إما طلبا للراحة أو الاستجمام أو طلبا للرزق، فالهجرة النبوية تجاوزت كل هذه الأغراض لترتقي بالإنسان إلى عالم القيم،

فتكون بذلك نقلة نوعية متفردة، تتجاوز حدود المكان والزمان، لتكون فيصل بين مرحلتين أساسيتين في حياة الدعوة،

من حياة عاشها أفضل الخلق في مكة المكرمة، وكان لها سماتها وخصوصيتها، إلى حياة جديدة في المدينة المنورة،

حياة تختلف من حيث أهدافها وغايتها، لتكون هذه الرحلة فاصلة بين حياة الاستضعاف والقلة في العدة والعدد إلى حياة قيادة المؤسسات وامتلاك الخطط والاستراتيجيات،

ومن حياة ميزها التخفي والاختباء في الزوايا والمحاصرة في الشعاب والتضييق؛

إلى حياة الجهر بالفكرة والتعريف والسير لتحقيق التمكين،

ومن حياة الترقب إلى حياة الحركة والانطلاق في شتى دروب المشاريع.

دروس الهجرة

 إن الهجرة النبوية علمتنا دروسا عملية،

أنه لا حياة بلا تخطيط على الرغم إن هذه الرحلة كانت بأمر الله ورعايته،

لكن الرسول صلى الله عليه وسلم علمنا أن استنفذ الجهد البشري، فأحاط الرحلة بكل أسباب النجاح،

أحسن توظيف كل متاح وطاقة تسهم في إنجاح هذه الهجرة، اختار الرفيق المناسب الذي يقاسمه مشاق الطريق،

ويهون عليه المتاعب المنتظرة، فكان الصديق الخليفة الأول أبي بكر رضي الله عنه نعم المرافق،

ومعها وفر عليه السلام كل لوازم الرحلة، فوفر الراحلة والدليل،

كما أمن الخروج في خفية، فالعدو كان يترصد كل حركة و سكنة، فكان الحيطة واجبة،

فاختار عليا كرم الله وجهه -زينة الفتيان- كان نعم الفدائي،

ولم يستثني رسول الله المرأة بالمشاركة في إنجاح مشروع الهجرة،

فكان للأختين الطاهرتين أروع التضحية -عائشة وأسماء- رضي الله عنهما، فبذلتا الجهد في إعداد الراحلة وتقديم الزاد،

والمدهش في هذه الرحلة دور مهم للأطفال فقد كان لهم حيز ونصيب في المشاركة في تقصي الأخبار وجمع أخبار العدو،

فنالوا بذلك شرف المشاركة في الهجرة، وقد كان للرعاية المسبقة للخطة بتهيئة المناخ الناجح للبيئة الحديدة..

فكان للصحابي المترف -مصعب بن عمير- أبلغ الأثر في إنجاح هذه المهمة،

وهذا كله يبن أن القائد الناجح لا يهمل الأسباب والمؤيدات،

فكانت الهجرة من حيث التخطيط مدرسة نموذجية يقتدي بها الرواد في صناعة التغيير المنشود.

حياة الهجرة

 إن حياة الهجرة تعلمنا أنه لا مكان للعصبية،

بها تجاوز المسلم الشعور بالغربة فقد امتزجت تلك العصبيات المتنافرة في ظل الإيمان، وفي ظل الأخوة في الله،

هذه الأخوة المفقودة في مجتمعاتنا اليوم بسبب نمو الشعور العصبي بين أبناء الأمة الواحدة.

لقد كانت الهجرة محطة عاصمة من مهالك هذه العصبية التي فتت أوصال الأمة اليوم.

فقد أسست الهجرة النبوية قاعدة إنسانية، تقوم على المؤاخاة عامة بين المسلمين،

هذه المؤاخاة التي عدت أخصّ من الأخوّة الرحم بين المؤمنين جميعاً، فكانت هذه المؤاخاة تحد للمورث القبلي أو العصبي،

فكانت أخوة مميزة تجملت بها صفحات السيرة النبوية العطرة، أثمرت هذه الأخوة مواقف مؤثرة خالدة،

أذابت كل الفوارق المجتمعية فجمعت بين الفقير والغني، وبين القوي والضعيف، وبين الشيوخ والشباب.

فكانت ثورة حقيقية على التقاليد المورثة، جملها إيثار في العطاء، و تقاسم في الحاجة،

لكن عزة الصحابة المهاجرين كانت راقية أظهرت كل معاني العفة والطهارة والنبل فحق في قدرهم هذه الشواهد الرائعة في قوله تعالى:

{والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا

ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} الحشر: 9.

وأثنى عليهم الحبيب محمد ا صلى الله عليه وسلم وهذا حقهم رضي الله عنهم بقوله (لو أن الأنصار سلكوا وادياً أو شعباً، لسلكت في وادي الأنصار) رواه البخاري،

وبيّن حبه لهم بقوله

(الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن، ولا يبغضهم إلا منافق؛ فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله) رواه البخاري،

ودعا لأولادهم وذرياتهم بالصلاح فقال:

(اللهم اغفر للأنصار، ولأبناء الأنصار، ولأزواج الأنصار، ولذراري الأنصار) رواه أحمد،

وآثر الجلوس بينهم طيلة حياته فقال: ( لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار) رواه البخاري

ليتنا تعلمنا من الهجرة فاستقينا منها العبر والدروس، فتكون لنا محطة انطلاق، و مرحلة حركة وبناء.

 فكل عام والأمة المسلمة بألف خير.

من د. علي القره داغي

الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين