المجتمع العربي القديم -الذي يروق لأكثر مَن يَدَّعون المدنية الآن أن يَصِفوه بالتخلُّف والرجعية والأمّية

وسائر ما يعطَف على هذه المعاني- كان أكثر وعيًا وحضارةً ورقِيًّا وجمالًا في كثير من نواحي الحياة الاجتماعية مما عليه نحن الآن.

انظر مثلا إلى مسألة الزواج التي اقتَربت أن تكون الآن في مجتمعنا أقرَب إلى الصورة االمسيحي؛

إذ تَحكُم الظروفُ الاقتصادية والأوضاع العرفية الاجتماعية على أكثر الناس بأبدِيَّة الزواج، مهما كانت مشاكله،

ومهما لاقى الزوجان من العنتِ والضيق والنفور وعدم الراحة والاستقرار،

فالزوج مكَبَّل بالتكاليف الاقتصادية والمسؤوليات، والزوجة ممنوعة بنظرةِ المجتمع وطريقة معاملته البئيسة وتعامله القاسي المجحِف مع المطلَّقة،

وهو واقع كئيب لم تستطع الكلمات الإنشائية والندوات والمؤتمرات والجمعيات أن تغيّر منه شيئا، فتتحوَّل الحياة بينهما إلى سجن حقيقي،

إلا أنه يسمح لكل منهما فيه بالتحرك في مساحة أوسع قليلا من السجن المعهود،

والأعزَب يلاقي من الإرهاقِ في تحمُّل أعباء الزواج ما يؤثِر معه العزوبية على ما فيها من نَصَب وكَرب وكَبت، إن كان قويَّ الدين،

ومن عَبَثٍ وضياعٍ وعربدة إن لم يكن كذلك.

في المجتمع العربي العتيق

أما ذاك الشأن في المجتمع العربي العتيق فقد كان أسهلَ وأيسَر مما تتصوّر، الأعزب ينكح مطلقة، لِتحفظَ إخوته الصغار، كما في خبر جابر بن عبد الله رضي الله عنه،

والشيخ الكبير ينكح فتاة صغيرة تصغره بأكثر من أربعين سنة،

كما في خبر عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أم كلثوم بنت سيدنا علي رضي الله عنهما،

ويتزوّج الواحد منهم زوجة صديقه الذي مات، يحفظها، ويصونها، ويعفها، ويرعاها،

كما في خبر زواجات أسماء بنت عميس رضي الله عنها؛ فقد كانت أوًّلا زوجة سيدنا جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه،

ثم مات فتزوّجها سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، ثم مات،

فتزوّجها سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه -والرجل له أكثر من زوجة، بنات عمات وخالات، بعضهن أبكار، وبعضهن ثَيّبات-.

أظن أن تلك العلاقات الشرعية الحاصلة في هذا المجتمع العتيق الراقي،

مع سهولتها ويسرها وبساطتها قد صبَغته بالطهارة العامة والعفة الشاملة،

حتى تضاءلت حوادث الزنا إلى أبعد غاية، فلم تؤثَر إلا عدة حوادث لا تمثّل نسبةً ذات بال.

ثم انظر الآن إلى المجتمعات المدنية، واعقد مقارنة عابرة، ليتبيّن لك البون الشاسع بين المُجتمعَينِ.

هذا الأمر كان ينبغي أن يكون أولى الموضوعات للمُولَعين بالكلام عن حقوق المرأة،

 بدلَ أن يشغلونا بأشياء بعيدة كل البعد عن طبيعة المجتمع الشرقي، وهي دخيلة عليه، ولا تناسبه من قريب أو بعيد.

من مجاهد ديرانية

كاتب وباحث إسلامي، سوري