منذ الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس، وفي ضمنها المسجد الأقصى، سنة 1967، ودخولِـها تحت حكم المحتلين الغاصبين، مع ما يتبع ذلك من عدم إمكانية الذهاب إلى المسجد الأقصى إلا بموافقتهم، وتحت شروطهم ورقابتهم، ارتأى عدد من علماء المسلمين وزعمائهم، وخاصة من العرب والفلسطينيين، أن زيارة القدس لم تعد جائزة في هذه الظروف وما تستتبعه من لوازم ومآلات، منها:

👈 كونها تتطلب تأشيرة من دولة الاحتلال.. وفي ذلك ما فيه من اعتراف ضمني وعملي بدولة العدو الغاصب.

👈 زيارة القدس، تتضمن حتما التعامل مع العدو الصهيوني ومؤسساته وموظفيه ومَرافقه الضرورية.. وهذا هو عين التطبيع والاندماج، الذي يتمناه العدو ويسعى إليه

👈 زيارة المسلمين للقدس الشريف ومسجده الأقصى، تمنح العدوَّ دعاية سياسية، يستغلها لتحسين صورته وسياسته .

👈 وهي توفر فرصا ومكاسب اقتصادية للعدو، من خلال استعمال طيرانه وفنادقه .

👈 الفرص والفوائد المذكورة للعدو، فيكون هذا العمل إثمه أكبر من نفعه، ومفاسده أكبر من مصالحه، فيلزم تحريمه لذلك.

فبجانب هذا القول بعدم الجواز، يوجد قول آخر بالجواز .

 أرى – وبالله تعالى التوفيق – أن المسألة تحتاج أولا إلى تصحيح تصورها وتكييفها، من بدايتها إلى نهايتها..تكييف القضية والنظر إليها عندي، يأتي من ثلاثة أبواب:

1- من باب عمارة المسجد الأقصى، باعتبارها مقصدا شرعيا وشعيرة من شعائر الإسلام ورموزه.

2- من باب نصرة إخواننا في بيت المقدس وأكنافه، ماديا ومعنويا .

3- من باب المدافعة مع الاحتلال.

 إن المقصد الشرعي ليس عملا محليا يتحقق بجيران المسجد ومصلِّيه الاعتياديين، بل المقصود هو العمارة العالمية، المعبَّـرُ عنها في الحديث بـ«شد الرحال».

فلا بد من الاستنفار العام والتوعية الدائمة للمسلمين بهذه السُّنة وهذه الشعيرة، خاصة بعد مضي زمن طويل على تعطيل بعض علماء المسلمين والزعماء الفلسطينيين لها، بحجة عدم جوازها، وهو ما جعلها منسية أو مجهولة .

وأما نصرة أهل بيت المقدس، فهي أيضا تحتاج إلى توعية وتدريب وإرشاد لعامة المسلمين.. وهذا أمر ميسور متى ما تجندَ له الدعاة والعلماء والوعاظ والخطباء…

وأما المدافعة مع العدو، فهي اليومَ المصلحةُ الكبرى والغاية القصوى لشد الرحال إلى بيت المقدس.

بالنسبة لأفراد المسلمين، قد تكون نيات بعضهم ومقاصدُهم لا تتجاوز تلبية نداء الشوق، ونيل شرف الزيارة والأضعاف المضاعفةَ للصلوات.. وهذا مقبول منهم ولا إشكال فيه، ولكنَّ نظرة العلماء والقادة يجب أن تتجاوز ذلك إلى مقاصده وثماره العامة والبعيدة.

إن جعل القدس في قلب المعركة وفي صفِّها الأول، يقتضي – أولا وعاجلا – رفعَ ذلك الحظر “الشرعي” المفروض على المسلمين، وفتحَ الأبواب لهم مبدئيا.. وأن نبث في نفوس المسلمين الحرج من عدم شد الرحال إلى المسجد الأقصى، بدل بث الحرج من القيام بذلك…

إن كل مسلم لا يفكر في المسجد الأقصى، ولا يحدِّث نفسَه بشد الرحال إليه، يشكل خسارة وفرصة ضائعة لقضية القدس وقضية فلسطين .

نحن اليوم إذا استعرضنا بلدان المسلمين، وأعدادهم الهائلة عبر العالم، نجد – للأسف – أن السواد الأعظم من المسلمين غائبون أو مغيبون، ومهملون ومستبعدون، عن القضية الفلسطينية

وبعض المسلمين قد يلتفتون ويتابعون أحيانا، وفي بعض المناسبات والأحداث، فيتعاطفون ثم ينصرفون إلى همومهم حتى إشعار آخر..

وبعضهم قد يشاركون في بعض التظاهرات والاحتجاجات، بمعدل مرة أو مرتين في كل عام

وذلك أن القادة الفلسطينيين، ونحن بجانبهم ومن ورائهم، عليهم أن يبتكروا من الأساليب والمداخل والوسائل المتجددة، وأن يفتحوا من المعارك والأبواب والمسالك المتعددة، ما يتيح ويسهِّل لكل مسلم ومسلمة الانخراط في شكل أو عدة أشكال، من المقاومة المستمرة والتدافع الدائم والاشتباك المتواصل، مع العدو الصهيوني ومشاريعه العدوانية، قديمها وما يجدُّ منها.. ومن ذلك قضية القدس بكل جوانبها وتشعباتها. وهي قضية شرعية تلقائية، لم يبتكرها أحد. فقط يلزمنا العملُ على تفعيلها، بدل العمل على تعطيلها أو تكبيلها.

من د. أحمد الريسوني

فقيه مقاصدى ومفكر مغربى أستاذ أصول الفقه مقاصد الشريعة بجامعة قطر، والرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.