في «مرافئ ضبابية»..  للشاعرة منور ملا حسون

عرفتُها من قصائدها وقصصها ومقالاتها النقدية ونصوصها الإبداعية في مختلف مجالات الأدب، وفي كيفية تنسيق وإحياء كلماتها بين الأسطر التي سطرتْها بأحرف من ذهب، فحدَّدت بها مواضع متون قصائدها الشعرية وبشاعرية شفافة في مجموعتها الشعرية (مرافئ ضبابية). فهي تارةً تُعبِّر عن المعاناة والجراح والألم وخاصة في قصيدتيها «إلى الحمام النازف» و«ألم بلا حدود» إذ تقول :  

قبل أن يصدأ العمر

ويسلبَ الجزر

بقايا أيامه..

اِطفِئْ وجعَ الجرح

أيها الحمام النازف.. ص / 44

وفي قصيدة «ألمٌ بلا حدود» تجسد ألمها بوجد صوفي وبإيحائيةٍ مؤثرة :

بلابلُ قلبي الغريدة،

هاجرتني نحو سماء تختفها الغيوم.

فباتت أيامي مؤلمة..

آثارها الشجية

لاتغادر دواخلي . ص / 51

وعن الفراق والوداع والغربة في قصيدتها «و.. سئمتُ الاغتراب..!!»

حيث المعاني والصور التعبيرية المُجسدة للمخاض الأليم في محطة الوداع :

على بوابات الليل المغلقة

في وجه الأمان،

وأحشاء الظلمة

تحجب قمرها المخبوء..!

يستحيلُ رجع الموج

الى تنهيدة..!!

في إرتطام اللقاء بالوداع .. ص / 54

وفي القصيدة نفسها وبين تلاطم الموج وتنهيدة الرحيل، إذا بها  تُشرع أجنحة الأمل في دواخلها نحو عوالم سرمدية وبشكل إيمائي :

وإذا ..!!

 بجدائل الربيع،

تشرئب من عتمة الدوران .

تتدلى من الأفق الأزرق

وتعزف الغصون الحاناً سرمدية..

ومرافئُ الشوق الأخضر

تشدّ حقيبة العودة..

أما اللوعة والرحيل في «الرحيل الموجع»، والحُزن في قصيدة «خاتمة الأحزان» فقد ترجمت بهما الواقع المرير وهي تستلهمُ بصمتها الداخلي من ألم محيطها، عبارات زاخرة تُنسجها بمفردات (الحزن – الرحيل – تنهيدة – ظلام – أنين – فجيع – الشقاء – الوحشة – الأشجان..) وغيرها

فقد ربطتْ أيضا كلماتها بباقة ورد قطفتها من حديقة أشعارها فزينتْ بها مجموعتها الموسومة «مرافئ ضبابية»..  وفي قصيدة «قنديل يقبل القسمة على مرارة البهجة»، فقد شكلتْ بكلماتها لوحة تجسيدية ربطت ريشة الرسام بكلمات شاعر مهووس، فنراها تعزف على قيثارة الشاعر في غرفة مظلمة وبقنديل مكسور، لكن فيض كلماتها أضاءت الغرفة المظلمة التي جلست فيها . فالقصيدة تستوقفنا في محطتين، فهي تخاطب الورد تارة وتخاطب الدمية الخرساء تارةً أخرى لإنقاذ الشاعر الذي لا يعتق الحياة :

قنديل مكسور

يغدو في قلب الشاعر قيثارة .. ص/ 5

***

عندما تدمع عيون الورد،

ترتجف الأهداب

مستجدية قاطفَ الورود… ص / 5

***

وتحت شجرة الزيتون هناك،

تجلس طفلة مكتئبة..!

معاتبةً دميتها الخرساء،

في لحظة انتحار..!!

ولأن الشاعر لا يعتق الحياة..

يلملم بقاياها المتناثرة،

على أجنحة الرياح،

ويبارك صمتها .. بجراح خضراء… ص / 8

 وتخاطب في أبياتها «مرافئ ضبابية» اللبلاب الذي يوشك على الموت، وتحاول إنقاذه بنسج  دواخلها وبلغة شعرية لتُبنيَ له جدارا ليتسلقه .

 إذْ تضيقُ بي الدنيا،

أعود إلى ذاتي أحتضنها..!

لكن..!! ماذا …لو؟!

ماذا لو واجهني

اللبلابُ فيها

وهو يموت حسرة

من دون شرفة يتسلقها ؟! ص / 14

وفي قصيدتها «القادم مع الخريف» فقد عالجت موضوع التعاسة بدقة، وأرشدت التعيس الى الخروج من تعاسته، كما وأضفت مفردات (البحر – الأغصان – الريح -الطيور) رونقاً آخراً للقصيدة والممثَلةُ بالذات والآخر .

 أما في قصيَدتَيها «وأعلنتً السلام» و«إليه أينما يكون» فقد خاطبت القلب القاسي بنتاج شعرها الداخلي.. إذ عَرضتْ عليه خلجات قلبها التي وصفتها بالرقة، والرهافة وحضناً للآلام، وبالملاذ الآمن حيث تودع فيه صخب الأيام، مُعبرّةً بمفرداتها الشفيفة عن أعمدة الأنوثة من حب وصبر وتضحيات. أما في قصيدة «الجرح» والتي (أدرجتها المديرية العامة للمناهج والكتب في وزارة التربية ضمن منهج الصف الثالث المتوسط / 2013) فقد استخدمت أسلوب الربط، فربطتْ الإنسان بالخالق بطريقة مثيرة، وصورتْ  معاناة الإنسان واستنجاده بالله لكونه الخالق والمعبُود الأحد.

وقد وصفت المرأة في قصيدتها «حكايا السوسنات.. الزنبقات» بوصف إبداعي، مشحون بالأحاسيس، فوصفتها بالصابرة والمتحدية التي تتحدى قسوة الزمان، وبالعفة، وبالحب والحنان، وبثت شواهد تجسد حب المرأة وعشقها كما في قصة قيس وليلى .

نحن نساءٌ  …ليلاواتٌ

لم ننسَ قيسنا ,

الساكن فينا …

وفي ضحكة العين الريانة .

 فكل واحدة فينا ..ليلى

تستجدي زمانها

لحظة الشوق المؤجل ! ص / 63

لم تنسَ منور ملا حسون عشقها لوطنها والوفاء للشهداء في أشعارها . ففي قصيدة «ترنيمة إلى شهيد» قدمت للشهيد كل ما تملكُ في قاموسها الشعري، وكأنها هي صاحبة الشهيد، إذ ودعته بكلماتها الثرية مناجيةٌ ومحاورةً للشهيد حتى وريَ جثمانه الثرى .   

أما قصيدتها «أرضي.. وطني.. بلدي» فهي الأخرى منجم من مناجم ذهبها الشعري، فهي تتحدث عن مدينتها (كركوك) واصفة إياها بالذهب الأسود.. وعن قلعتها الشامخة التي تحكي صدى السنين.. فنراها تُخاطب بأحرفها النابضة بالوفاء، نار كركوك الأزلية «كور كور بابا».

وتستمر في العطاء الحسي النابع عن حبها لمدينتها (كركوك) في قصيدتها «ابتسامات لم ترتض لنفسها الذبول».. حيث قادها عِشقُها لمدينتها إلى التجوال في أزقة قلعة كركوك الشمَّاء وزيارة مرقد النبي دانيال.. حيث قادتها زقزقة العصافير إلى منطقة «كاوور باغى» ببساتينها الخضراء وبأشجار الزيتون الباذخة العطاء والتي تم قلعها من جذورها..

(كاورباغى ) استجابت

لزغردة الطيور

على الأغصان العارية،

وعلى ترابها الأزلي

تبكي وحيدة بائسة..!!

كالآمال المكبوتة

في عمق القلوب:

كلُّ شئ اختفى خطوة خطوة !!

وأهاج اختفاؤه

قلبي الزيتوني الحزين. ص / 69

وتنُظر منور ملا حسون إلى نهر خاصة صو الذي يفتقر إلى الماء، وتتذكر القنطرة الحجرية التي كانت من المعالم الحضارية التركمانية التي لم تستطع مقاومة ظلم ومعازق البشر. 

والكلام عن منور ملا حسون لا يسعها الكتب.. فهي القاصة والصحفية والكاتبة والشاعرة التي تُجيد تجسيد الكلمات، وترسم بها لوحة شعرية زاهية.. فهي نجمة من النجوم اللامعة التي تلوحُ في سماء الثقافة والأدب، ونجمة لا يخفتُ بريقُها.. فقد أضاءت قلوب متابعيها من خلال إنجازاتها الرائعة.. إذ استطاعت أن تثبت وجودها في المجال الأدبي والشعري بين فطاحل الشعراء والأدباء العرب الذين انبهروا بكتاباتها وقصائدها الشعرية، وأثبتت نفسها بجدارة  رغم أنَّ العربية ليست لغتها الأم. أما نتاجاتها الأدبية بلغة الأم فهي الأخرى كلوحة فنية متناسقة الألوان تضفي أشكالاً حسية مؤثرة.

وقد سطع نجمها أيضاً في عالم المسرح، فهي  ناقدة مسرحية، لها كتابات حول المسرح العراقي عامة والمسرح التركماني خاصة، وأجادت كتابة القصص القصيرة بالعربية وبلغة الأم. فكلما تكتب منور حسون فإن الكلمات تترنم على أوتار قيثارتها، وكأنها أنواط موسيقية تصطفُ على لوحة الألحان.

لقد نشأت منور ملا حسون في عائلة دينية فكان والدها المرحوم من كبار علماء الدين، وكان له تأثير كبير في تطوير ثقافتها الأدبية، فمسكت أناملها القلم وهي في حداثة سنها، وكتبت باللغات العربية والتركمانية والتركية الحديثة، واستطاعت أن تحتل مكانة مرموقة في الوسط الأدبي في العراق وفي الدول العربية وبعض الدول الناطقة باللغة التركية (تركيا وأذربيجان)، وحازتْ أشعارها تقدير النقاد والشعراء العرب والتركمان. 

وأخيرا وليس آخرا فإن الكاتب يحتاج إلى خزين من الكلمات لوصفها وللإشادة بأسلوب كتاباتها، فهي بارعة في ترتيب الكلمات ورصِّها في مواقعها.. وما لي إلا أن أقول إنَّ منور ملا حسون قد أزاحت الضباب عن مرافئها الضبابية بكلماتها وبعبقها الشعري.

من د. معراج أحمد الندوي

أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها جامعة عالية، كولكاتا الهندية