رفض الفلسطينيون منح وطن لليهود على أرضهم ونشبت ثورة في القدس والخليل عام 1929.

في عام 1930، أصدرت بريطانيا الورقة البيضاء التي كانت معادية للصهاينة واعتبروها تراجعًا عن وعد بلفور.

اندلعت ثورة فلسطينية عام 1936، وأينما حلت كلمتا «ثورة واشتراكية» تظهر في خلفيتهما ظلال المحفل الفرنسي؛

شعرت بريطانيا ومحفلها الماسوني بخطورة عملية الاستيطان الفرنسية التي أصبحت تطالب بخروجها من معادلة فلسطين،

فشكلت لجنة «بيل الملكية» في عام 1937،

وكان هدفها إنشاء ثلاثة أقاليم في فلسطين، يهودي، وعربي، وإنجليزي يحكم القدس وبيت لحم والممر الموصل للبحر المتوسط،

فرفضها العرب وثار ضدها بعض أعضاء عصبة الأمم التي أرسى قواعدها رؤساء «ديمقراطيون» أمريكيون.

«الكتاب الأبيض» يتعهد بإنشاء وطن قومي لليهود

أصدرت الحكومة البريطانية عام 1939 ما يعرف «بالكتاب الأبيض» الذي تعهد بإنشاء وطن قومي لليهود داخل دولة موحدة فلسطينية خلال 10 سنوات يحكمها الفلسطينيون واليهود،

وفرض قيودًا كبيرة على الهجرة اليهودية وشراء الأراضي؛

مما دعا الهاغاناه لتنظيم هجرات يهودية سرية غير مشروعة إلى فلسطين، ومظاهرات مناهضة للحكومة البريطانية.

بعد الحربين العالميتين 1945، وبعد معارك كبدت أوروبا خسائر طائلة، تغيرت التركيبة السياسية العالمية، فلم تعد إنجلترا وفرنسا هما قطبا العالم؛

صار المحفل البريطاني الرأسمالي الذي أوجد لنفسه قاعدة جديدة في أمريكا بواجهة حزبية جمهورية،

والمحفل الفرنسي الديمقراطي الاشتراكي الذي استوطن الاتحاد السوفيتي المنحل،

هما من يقودان من خلال أحزابهما التي أصبحت تتحكم في مقدرات الدول؛ وتعيق الحكومات عن اتخاذ القرارات بشكل مستقل.

يفسر تأرجح السوفيت بين النسخة الاشتراكية الفرنسية والألمانية والبريطانية ردود الأفعال الأمريكية تجاههم،

ولذلك قد ينشأ خلاف حاد بين رئيسين أمريكي وسوفيتي بالرغم من أنهما ينتميان للفكر الاشتراكي.

الأمريكان والسوفيت الراعيان الرسميان للكيان المحتل

بعد التخلص من الانتداب البريطاني، وإعادة الحكومة البريطانية التفويض إلى عصبة الأمم بسبب مواجهتها تمردًا يهوديًا متزايدًا في فلسطين،

تأكد تأسيس دولة إسرائيل بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة.

استمر الصراع مع المتمردين حتى غادر فلسطين آخر جندي بريطاني عام 1948؛

ومنذ ذلك الوقت صار الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي هما الراعيان الرسميان للكيان المحتل،

وأصبح هو قبلة كل من يريد التشبث بذيل عباءة الكبار.

طوال الحرب العربية ضد «إسرائيل» عام 1948، كانت العلاقات البريطانية الإسرائيلية عدائية بشكل قاطع،

اعترفت المملكة المتحدة بإسرائيل بحكم الواقع في عام 1949، وبحكم القانون في عام 1950.

في أعقاب الحرب، عمل الكيان الصهيوني بالتعاون مع فرنسا بنجاح على معارضة الخطط البريطانية في المنطقة.

العمل الاشتراكي يسيطر على الحكم في «إسرائيل»

سيطر حزب العمل الاشتراكي على الحكم في «إسرائيل» بين الأعوام 1948 وحتى 1977.

كان الاتحاد السوفيتي أول دولة أعلنت اعترافها «بإسرائيل» رسميًّا، وتأييدها سياسيًّا ودبلوماسيًّا وعسكريًّا، وفتحها باب الهجرة إليها في مايو 1948.

تفوق الفكر الاشتراكي في مصر برعاية «ترومان» الرئيس الأمريكي الديمقراطي، فانقلب الضباط الأحرار فيما يعرف بثورة 1952 رافعين شعار التخلص من الاستعمار.

حاول أيزنهاور الجمهوري الفائز برئاسة أمريكا 1953 استمالة محمد نجيب وإقناعه بتطويق الاتحاد السوفيتي، وبتبني إدارته سياسة جديدة متوازنة نحو العرب وإسرائيل.

على الطريقة الشيوعية، انقلب عبد الناصر على نجيب في 1954، كما دعم الثورات في المنطقة العربية، فشكل ذلك انتصارًا للديمقراطيين.

تدهورت علاقة جمال بالأمريكان الجمهوريين الذين ماطلوا في مساعدته على التسلح.

في 1955،استغلت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي فرصة الخلاف الأمريكي الرأسمالي مع عبد الناصر، فأعلنت أن العالم الثالث أصبح مستعدًا لقبول الاشتراكية، وأن القوى التقدمية الصاعدة يمكنها إضعاف المعسكر الرأسمالي.

قبل عبد الناصر عرض الروس الاشتراكيين الذين ساعدوه في بناء السد العالي؛ وساندوا تأميمه قناة السويس، فبكروا بتنفيذ مخطط تدويلها بعد أن هيمنت بريطانيا عليها.

العدوان الثلاثي والتوازن الدولي

يعتبر العدوان الثلاثي على مصر 1956 من أهم الأحداث التي ساهمت في تحديد مستقبل التوازن الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.

مثلت فكرة تشارك إنجلترا وفرنسا و«إسرائيل» في حرب ضد مصر «البلشفية الطعم»، وسحب الولايات المتحدة دعمها لهم وإجبارهم على التراجع، نقلة عالمية حاسمة؛

نتج عنها أفول نجم القوى الاستعمارية التقليدية في هيئة دول بعينها، وبزوغ الأنظمة الاقتصادية (رأسمالية واشتراكية) كصانع للقرار على الساحة الدولية.

كما في كل الأنظمة، انقسمت الأحزاب الإسرائيلية ما بين اشتراكية ورأسمالية،

وغلبت الرأسمالية فكان قرار الهجوم على مصر الاشتراكية «الشيوعية المسلك، الألمانية الروح» في يونيو 1967،

فاغتصب الكيان سيناء وضفة قناة السويس وحقول بترولها، والجولان وغزة، والقدس والأقصى.

لم يكن عبد الناصر ينوي دخول حرب مع «إسرائيل» بل على العكس كان يبحث سبل سلام معها؛

أما عن خطابه العدائي فقد استخدمه لإسكات أصوات المعارضة، وللتغطية على خسائره في حرب اليمن.

مثل الهجوم الرأسمالي الدولي للسيطرة على قناة السويس ردا لازما على سعي الاشتراكيين للتحكم في مدخل ومخرج البحر الأحمر بدعمهم الثورة اليمنية وتأميم القناة، وعلى محاولاتهم نزع ملكية أنصبة الدول الاستعمارية في المنطقة عبر الثورات.

 السوفييت يدعمون عبد الناصر

كرد على ضياع قناة السويس من قبضة الاشتراكيين؛ دعم السوفييت عبد الناصر بقوة، وبمرور الوقت بدت منهم بوادر تراجع فساومهم بأنه قد يسلم الحكم لزميل يفاوض الأمريكان،

وقد تحقق ذلك بتعيينه السادات نائبًا له قبل وفاته.

قدم الاتحاد السوفيتي مساعداته للسادات بعد توليه في 1970 وصولًا إلى حرب أكتوبر 1973 التي اندلعت بالوكالة عن الرأسماليين والديمقراطيين وكانت ستفضي إلى حرب نووية عالمية، وانتهت دون نصر حاسم لأحد الطرفين.

أدرك الجمهوريون أن مزيدًا من التوغل بعد الثغرة نحو القاهرة سيضر بمصالحهم في المنطقة لذا ضغطوا لوقف الحرب،

وفطن الاشتراكيون إلى أنهم عاجزون عن الاستمرار فتقهقروا؛ كما خلص السادات بعد اجتماعه بقادة الدول الغربية إلى أنهم لن يضغطوا على إسرائيل؛

وهنا عرض على حزب الليكود الوليد الموالي للرأسماليين التفاوض من أجل سلام حتمي؛ ما دفع الطرفان في النهاية إلى توقيع معاهدة كامب ديفيد 1978.

شرعنة فكرة التطبيع

مع إخراج مصر من ساحة الصراع العربي الإسرائيلي؛ بدأت شرعنة فكرة التطبيع مع الكيان الصهيوني داخل الأنظمة العربية،

وبالرغم من أن التطبيع كان قد بدأ مستترًا في دول عربية تابعة لاستعمار رأسمالي،

إلا أن إعلان السادات الاشتراكي خضوعه للتطبيع مع الرأسماليين اليهود كان فرصة لا تعوض لوصمه بالخيانة ولإخراج مصر من ميدان قيادة المنطقة أيضًا لتحل محلها الزعامة النفطية.

دخل تطبيع العلاقات الاشتراكي الجمهوري بين «إسرائيل» ومصر حيز التنفيذ في يناير 1980 بعد أن حاول السادات تطبيق سياسات رأسمالية قربانًا للحصول على مساعدة دول الناتو لتحسين أوضاع الاقتصاد المصري.

أستعير رد سعد الدين الشاذلي عندما سئل:

«من قتل السادات؟»،

فأجاب:

«كلنا قتلناه»؛ ففي رأيي، أن السادات قد اغتيل بأيدي قوى الحرب والسلام «الجمهورية والاشتراكية» لينهوا معا به هذه الحقبة.

في حواره مع الكاتب أحمد بهاء الدين قال السادات:

«أنا وعبد الناصر آخر الفراعنة»، وصدق ذلك بتعيينه مبارك نائبًا له، ليتولى الأخير منصب الرئاسة في 1981،

وبالفعل يأخذ الحكم في عهده شكلًا ديمقراطيًّا فارغًا من المضمون.

حرس مبارك اتفاقية كامب ديفيد واسترد طابا وصنع بها انتصاره الخاص.

يتبع…

من أحمد أبو زيد

كاتب صحفي، وباحث في الفكر الإسلامي