الوجه الحقيقي للمحتل

يظل فكر المحتل كما هو لا يتغير عبر الزمان والمكان كأنهم قرأوا على شيطان واحد، بعد أن صرف الخديوي المأمور بصرف عرابي ورفاقه لاستيعاب الاحتقان الشعبي، سريعا كشر المحتل عن أنيابه وأظهر سوءاته استخفافا وامتهانا للمصريين المدمدمين، وتبخرت وعوده الكاذبة وأرسلت الدولتان انجلترا وفرنسا للخديوي مكتوبا يقضي بأن لا، لا تغيير في الحكومة ولا النظام الحالي مع علمهما بحالة الاضطراب والتداعي مدفوعتين بغرور القوة والقدرة على التصدي لأية قلاقل بالداخل أو الخارج من شأنها الإضرار بمصالحهما «لأن أي تغيير يعتبر انتهاك لحرمة نفوذ انجلترا وفرنسا (أهم شيء هو بقاء نفوذهم، لاحظ الإهانة والاحتقار للمصريين من المحتل في لغة الخطاب)».

رغم أن المراقبين الإنجليزي والفرنسي أرسلا إلى بلادهما أن مجلس النواب عازم على تغيير الحكومة بشكل جذري، فكان الرد منهما بأن لا تغيير يذكر سيحدث وهو ما يعني أن البلدين لديهما نية التدخل المسلح مما دفع مراسل التايمز أن يكتب معربا عن خيبة أمل المصريين في انجلتراالتي كانت ينظر إليها المصريون كدولة بارة بالمسلمين بعامة، وبمصر خاصة (إفراط في السذاجة) وأن فرنسا هي من تؤز انجلترا على التدخل المسلح كما هي أزمتها بتونس.

وزارة محمود سامي:

ليست المشكلة هي اسم رئيس الوزراء يذهب شريف ويأتي محمود ولكن المشكلة في كيفية إدارة الأزمة، الأزمة التي خلفها إسماعيل بديونه المتتالية فوضع الدولة المصرية (كانت آنذاك مصر والسودان) تحت ناب المحتل، فكان خطاب محمود سامي البارودي أمام مجلس النواب طمأنة للأجانب الدائنين بسياسة الإصلاحات التي سيجريها بالبلاد ولو تلوت عليكم هذه الخطبة لشعرت أنها خطبة رئيس حكومة البلد الواقع في الأسر، أسر المحتل في كل زمان ومكان من الحفاظ على المواثيق والعهود التي قطعتها مصر المنكوبة على نفسها لسداد ديون إسماعيل والسمسار نوبار، فكل الخطط والقوانين توضع من أجل مصلحة المحتل أولا وأخيرا.

من العرض السابق يتضح أن النية باحتلال مصر كانت مبيتة بقرار مسبق كغنيمة لبلد مستباح يتم طمس الحقيقة فيه على العامة مع قيادات خانعة، وهم يعرفون جيدا الوقت الذي سينقضون فيه على الفريسة وهي اللحظة التي يتم فيها إزاحة فرنسا من المشهد، وفرنسا لديها مشاكل مع تونس الواقعة تحت الاحتلال آنذاك.

عن طبائع المصريين قال ألفريد سكاون بلنت:

إن المصريين شعب طيب أمين ككل شعب حر في العالم. نعم كل المصريين أي الذين لا يتربعون في الوظائف العالية (العامة والدهماء) لأنني لا أعرف شيئا عن هؤلاء، فكل المصريين القرويين لديهم كل الفضائل اللازمة لجعل الجماعة سعيدة ناعمة البال فهم عاملون مبتهجون طائعون للقوانين، ثم هم فوق كل شيء مستقيمون لا فيما يختص في المشروبات الكحولية فقط بل في كل الخروقات التي تجنح إليها الطبيعة البشرية، فهم ليسوا مقامرين ولا مشاغبين ولا محبين للدعارة والتهتك، وهم يحبون بيوتهم وزوجاتهم وأطفالهم، وهم آباء وأبناء صالحون، كثيرو الشفقة على العجماوات والزمي والمتسولين والمعتوهين، وهم خلو من كل تعصب جنسي وقد يكونون خلو من التعصب الديني أيضا، وغلطتهم الكبرى هي حب المال ولكن يستطيع دهاقنة الاقتصاد السياسي التسامح فيها، وقد يصعب أن يعثر الإنسان في أي جهة على شعب أكثر استعدادا من المصريين لإدراك الغاية الاقتصادية لأكبر سعادة تشمل أكبر عدد، فكل مطامحهم أن يعيشوا وأن يدعوا غيرهم يعيش (طول عمرنا بنأكل عيش) وأن يسمح لهم بالعمل والاحتفاظ بنتاج أعمالهم وأن يبيعوا ويشتروا بدون تدخل وأن يفلتوا من الضرائب، ولقد أسيئت معاملتهم وذاقوا الأمرين منذ قرون عديدة دون أن تتغير طيبة قلوبهم، وهم ليسوا بالمتحمسين في الوطنية ولا بالمتعصبين ولا بالأسخياء لدرجة الخيال، ثم أنهم خالون من المعايب الشائنة فكل رجل منهم يعمل لنفسه أو لأسرته على الأكثر، أما فكرة التضحية الشخصية للمصلحة العامة فغير مفهومة لديهم ولكنهم بريئون من الدسائس لاستعباد أقرانهم، وبالرغم من الاضطهاد الفظيع الذين هم ضحيته لم نسمع كلمة ثورية وليس ذلك ناشئا عن أنهم يقدسون حكامهم تقديسا خرافيا بل لأن الثورة ليست في طبائعهم أكثر مما هي في طبائع قطيع من الغنم، وأنهم ليحبون ملكة انجلترا أو البابا أو ملك أشانتي بلهف متساو لو أن هؤلاء جاءوهم بنعمة تخفيض الضرائب وبمقدار قرش في الجنيه.

وتعقيبا على رأي بلنت الذي كتبه عام 1876 وهو من تقلب في جملة من البلاد الإسلامية ممثلا لبلاده وآخرها مصر التي عاش فيها فترة غير قصيرة، فلو حللنا هذا التوصيف أو الانطباع من أجنبي لوجدناه يحوي من الإيجابيات كما يحوى من السلبيات كما أنه لم يتحرر من لغة الغطرسة والغرور الذي تربى عليه في الكنيسة وعلى أيدي المستشرقين، فحبهم لأي كائن مهما كان سيخفض لهم الضرائب وغياب فكرة التضحية من أجل المصلحة العامة وغياب مفهوم الثورة التي ليست من طبائعهم لهي الدليل القاطع على طول عهود الاستعباد والقهر وسحقهم إنسانياوالذي تعرضوا له كثيرا، مما أثر على عقيدة الولاء والبراء لديهم والتي هي صلب وعصب عقيدة التوحيد بل ومن أجل حقوق “لا إله إلا الله”

ولم ينسى بلنت أن يذكرنا بدور دزرائيلي المدفوع من آل روتشيلد في توريط مصر بقيادة إسماعيل في الاستدانة من انجلترا لتدفعها إلى احتلال مصر.

نستطيع أن نستبطن كلام بلنت عن تآمر عائلة روتشيلد على مصر بالدفع لتنفيذ مخطط يهودي صهيوني بجر جيوش انجلترا إلى مصر لتتمدد في محيطها وتفسح المجال لعصابات اليهود بالسيطرة على فلسطين يمدونهم بالسلاح ويمنعون السلاح عن المجاهدين الفلسطينيين وقتل من يضبط منهم في حوذته سلاح ليثبتوا أركان عصابات اليهود الإرهابيين.

هذا دأب اليهود المرابين إذا أرادوا القضاء على فرد أو جماعة فإنهم يحاصرونهم بالديون، فعلوا هذا من قبل مع انجلترا عندما كانت لا تغيب عنها الشمس ليقزموها وحدث أن انحسر ملكها داخل حدودها، تعثر اقتصادها فعرضوا على حكومة انجلترا قروض بشرط السماح لهم بإنشاء بنوكا في انجلترا وقد كان، وحاصروا مصر في شخص إسماعيل الأرعن ليبلغوا فلسطين، سنة الله لابد وأن تتحقق ليبلغوا العلو الكبير

(وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)سورة الإسراء)

إنه الاستدراج الإلهي، الغرور بالعلو تلو العلو ليكون هو نفسه من أجل أسباب السقوط المدوي.

وعن نوبار باشا قال بلنت:

كان نوبار باشا صديق سوء لإسماعيل وهو ممول أرمني أصبح بفضل جهل طبقة معينة من المصريين بالتاريخ يلقب “بالمصري الوطني” في حين أنه الوحيد بعد إسماعيل الذي يتحمل أكبر مسئولية عن خراب مصر المالي فقد أرسله سيده (إسماعيل) للبحث عن الأموال بأي سعر للإنفاق على حاجاته الباهظة، فعقد له في أوروبا القرض تلو القرض بشروط جعلته لا يستلم أكثر من 60% من المبالغ الذي استدانها بينما استولى نوبار على عدة ملايين من الجنيهات باسم السمسرة، فقد ثبت أن إسماعيل لم يستلم سوى 54 مليون جنيه تقريبا من الديون التي بلغت 96 مليون من الجنيهات، وفوائد الديون وحدها بلغت أربعة ملايين من الجنيهات سنويا، ولتسيير إدارة الدولة المصرية ماليا خاصة حرب الحبشة آنذاك فإن هذه الأموال كانت تحصل نهبا بالكرباج من الفلاحين وهو ما تسبب بانتشار المرابين الأروام واليونانيين واليهود بين الفلاحين الذين باعوا كل ما لديهم.

وللحديث بقية إن شاء الله

من د. إبراهيم حمّامي

كاتب وباحث سياسي