بعد توقيع إنجلترا وفرنسا «الوفاق الودي»، وتأمين علاقتهما بالإمبراطورية الروسية والنمساوية المجرية، أصبحت ألمانيا في عزلة متزايدة، فجمعت العديد من القوى الأخرى في أوروبا من أجل المطالبة بنصيبها في أفريقيا؛ مما أدى إلى التوتر بين القوى العظمى، وكان سببًا رئيسًا في الحرب العالمية الأولى.

بدعم ألمانيا للبلاشفة، تم الانقلاب على الثورة الروسية، وبذلك سددت ضربة قاصمة لإنجلترا وفرنسا بتفكيك الإمبراطورية الروسية، وانسحابها من قوات الحلفاء، بل كشف اتفاقية سايكس بيكو سازونوف، التي اقتسمت فيها فرنسا وإنجلترا وروسيا تركة الدولة العثمانية، فأحرجت إنجلترا وفرنسا أمام حلفائهما العرب.

تسبب الانقلاب البلشفي في حدوث سلسلة من الثورات في البلاد التي استعمرتها بريطانيا؛ بل إن توابعها وصلت إلى أوروبا والداخل الإنجليزي، مما جعلها تظن أن ثمة مؤامرة يهودية شرقية تنسج ضدها، ما أدى بها إلى التسريع بإعلان وعد بلفور في 1917، الذي تضمن مصطلح «وطن قومي» دون سابقة في القانون الدولي، وكان غامضًا بشكل متعمد؛ فلم يشر إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين أو إلى حدود معينة. شاب القرار كثير من ضغط الروتشيلديين البريطانيين، بعد أن استدانت انجلترا منهم مبالغ طائلة أثناء الحروب النابليونية. شاركت الحكومة الإنجليزية يهود غرب أوروبا رغبتهم في التخلص من الأعداد الوافدة إليهم من يهود الشرق ذوي الثقافة المتخلفة في نظرهم، والتي تمثل تهديدًا لمكانتهم الاجتماعية ومواقعهم الطبقية، لكنها أخرجت صيغة الوعد، وكأنها لا تريد أن تمكن اليهود تمكينًا كاملًا من فلسطين، لعلمها أن أطماع اليهود لن تقف عند هذا الحد.

استغلت إنجلترا انشغال الفرنسيين في القتال على الجبهة الغربية لأراضيهم في عقد اتفافات سرية مع عرب الجزيرة العربية بهدف الانقلاب على الحكم العثماني، والاستحواذ على البترول، والسيطرة على مناطق كانت قد خصصت للفرنسيين وفق اتفاقية سايكس بيكو، ولتمهد طريقها المستقبلي من حيفا نحو الخليج.

قابلت فرنسا وعد بلفور ببرود شديد، لكنها أصدرت بيانًا في 1919؛ بأنها ليس لديها اعتراض على وضع فلسطين تحت الوصاية البريطانية أو تشكيل دولة يهودية؛ ولأنها كانت في حالة ضعف، فقد لجأت لإستراتيجية الاحتلال الناعم للأراضي الفلسطينية. في 1920 فرضت بريطانيا سلطتها على فلسطين بموجب الانتداب الذي منحته لها عصبة الأمم، وسمحت لليهود ببناء وطن قومي لهم.

كان الصراع بين إنجلترا وفرنسا على من يكفل الكيان الصهيوني، وفازت إنجلترا حتى هذه الجولة؛ دعونا نقترب أكثر ونسلط الضوء على جماعات الضغط اليهودية داخل البلدين اللتين دعمتا الاحتلال اليهودي لفلسطين، لنتابع.

تعد سيطرة اليهود التنويريين – الذين اجتذبوا كبار رجال الدولة والسياسة والثقافة – على المحافل الماسونية في فرنسا وإنجلترا ميلادًا جديدا لها، وخاصةً بعد انضمام عائلات ثرية إليها كعائلة روتشيلد، وغيرها من العائلات التي مثلت يهود بلاط أوروبا، الذين غزلوا شباك الرأسمالية، والرأسمالية المضادة (الاشتراكية). حدث الانشقاق بين محفلي بريطانيا وفرنسا عام 1877، بسبب صراع بين الماسونيين والتنويريين؛ حافظ البريطاني الرئيسي على تقاليده كالاعتراف بالدولة والعمل من خلالها، أما الفرنسي فقد تبنى الفكر الثوري؛ يتدثر المحفلان بغطاء الماسونية العام، فهما أخوان عدوان تجمعهما احتفاليات، وتفرقهما المصالح. يتبع الرأسماليون والمحفل الأمريكي محفل بريطانيا، ويتبع الاشتراكيون برغم انشقاقاتهم محفل فرنسا. ويعد المحفلان هما المحركان الاقتصاديان الرئيسان لاتخاذ القرارات السياسية الدولية لما يتمتعان به من نفوذ وتمويل واختراق وتوجيه عبر أحزاب وجماعات وحركات، لذا لا يجوز تخطيهما واعتبار الحديث عنهما نوعًا من استجلاب نظرية المؤامرة.

في عام 1897، تبنى التنويريون إنشاء «المنظمة الصهيونية» بهدف إقامة وطن قومي لليهود، برز داخلها اتجاهان رئيسان عبَّرا عن صراع دفين بين محفلي بريطانيا وفرنسا: الأول، ماسوني صهيوني يؤمن بأن خلاص اليهود يكمن في عمل متكامل على الصعيد العالمي على المستوى السياسي والعسكري؛ أما الاتجاه الثاني فكان تنويري صهيوني عملي يؤكد على أن الخلاص لليهود يكون بزرعهم بفلسطين وزيادة عدد مستوطناتهم وري بذور التهجير ورعايتها دوليًّا؛ لتنمو وتضرب جذورها في العمق حتى تلتهم الأرض، دون الحاجة لخلق صراع لا مع العرب ولا مع الأوروبيين.

كان لعائلة روتشيلد، دورًا أساسيًّا في احتلال فلسطين؛ فقد قام أمشيل روتشيلد عام 1821، بتنظيم عائلته، وأنشأ مؤسسة مالية لكل فرع في خمس دول أوروبية مع تأمين ترابط وثيق بينها؛ فكان جيمس ماير دي روتشيلد، هو حجر أساس العائلة في فرنسا 1792، وكذا كان ناثان ماير روتشيلد، في بريطانيا 1798.كان الأخوان هما الممولان الوحيدان لكلتا الحكومتين العدوتين (فرنسا وإنجلترا)، وحققا أرباحًا طائلة عن طريق التلاعب باقتصادهما.

بالرغم من أنه لم يكن جزءًا من المنظمة الصهيونية العالمية إلا أن إدموند جيمس روتشيلد الفرنسي، اهتم بالمسألة اليهودية, وكان أهم المشاركين في تنمية المشروعات اليهودية في فلسطين؛ استقبل مشروع هرتزل، في أول الأمر بفتور واعتبره غير عملي، وفضل أن تتم عملية الاستيطان في فلسطين بشكل هادئ وتدريجي.عندما احتلت بريطانيا مصر في 1882، وتآكل النفوذ الفرنسي في قناة السويس، أسرع إدموند، بتنظيم أول هجرة جماعية يهودية إلى فلسطين ليضمن طريق حيفا – الخليج، وجمع تبرعات ضخمة لشراء أراضٍ في فلسطين؛ وقد وصل حجم رعايته ودعمه للمستوطنات إلى الحد الذي أكسبه لقب «أبو المستوطن الصهيوني».

علم الفرع الفرنسي أنه لن يستطيع فرض صفته العسكرية على فلسطين؛ لذلك فضل التسلل تحت غطاء الانتداب الإنجليزي. استخدم جايمس بن إدموند روتشيلد، نفوذه للحصول على موافقة فرنسا على وعد بلفور، وعلى إدخال فلسطين تحت الانتداب البريطاني، والتقى بحاييم وايزمان في 1914، لكي يؤثر على بعض النافذين لدى الحكومة البريطانية، وعلى الفرع الروتشيلدي الإنجليزي.

نجحت سياسة فرع المحفل الفرنسي بحيث تمددت المستوطنات في فلسطين، وأصبح لها جيش يصارع ليتخلص من الفرع البريطاني؛ فمع اندلاع الثورة العربية 1920، ظهرت منظمة «الهاجاناه» التي كانت مدنية تحمي أمن المستوطنين، ثم تحولت إلى ميليشيا ثم إلى جيش نظامي، تعاونت مع السلطات البريطانية خلال الحرب العالمية الثانية، ثم قاتلت البريطانيين والعرب عشية إلغاء الانتداب. بالرغم من اضطرار الحكومة البريطانية للتعاون معها فيما يتعلق بالقضايا الأمنية وأمور القتال، إلا أنها لم تعترف بها.

في 1930، تأسس حزب العمل الإسرائيلي ذو الطابع الاشتراكي، ونشأت تحت مظلته منظمتا «الهاجاناه» و«البالماخ» اللتان كانتا نواة الجيش الإسرائيلي بعد قيام دولة إسرائيل؛ سعى الحزب لتقسيم فلسطين لدولتين قوميتين للشعبين الفلسطيني والإسرائيلي، ولنيل الاعتراف الدولي بالقدس عاصمةً لإسرائيل.

يتبع..

من أحمد أبو زيد

كاتب صحفي، وباحث في الفكر الإسلامي