في سورة الكهف:
(قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) (67). (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا) (72). (أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا) (75). (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) (78). (ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا)(82).


في الآية 67 فعل مضارع دخلت عليه أداة نصب تفيد النفي. وأعيد القول نفسه في الآيتين 75 و78.
في الآية 78 أداة جزم دخلت على الفعل المضارع نفسه، فجزمته، فسقطت الياء لالتقاء الساكنين.
في الآية 82 الأداة نفسها والفعل نفسه، ولكن بحذف الياء حسب القاعدة. ثم سقوط حرف التاء.

وهذا يستحق التوضيح:

قالوا إن التاء والطاء من مخرج صوتي واحد، وبرروا حذف التاء ليخفّ اللفظ، كما في (فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)(الكهف 97). ولكن لو كان هذا التبرير صحيحا، فلماذا لم يبيّنوا سبب تخفيف اللفظ الأول وعدم تخفيف اللفظ الثاني؟ بل قرئت الآية بالتثقيل (اسطّاعوا). ثم زعموا أن من العرب من يقول: استاعوا. وكثرت الأقوال واختلفت وكل قائل يزعم سلامة قوله.


والظاهرة نفسها في هذه الآيات، إذ لو كان السبب تخفيف اللفظ فلماذا لم يحدث في الآيات (67 – 72 – 75 – 78) وظهر في الآية (82)؟


وصولا للجواب نرى أن أفضل طريق لفهم سبب حذف التاء، هنا، أن نعود إلى فهم اللغة فهما صوتيا. ولا أعني بالفهم الصوتي أن نمسخ دراسات الغربيين للغاتهم، ذلك المسخ الذي أدخل الضيم على دراسات اللسان العربي.


الدراسة الصوتية التي أعنيها منبثقة من ذات اللغة العربية. فلنبدأ برسم كلمة تَسْطِعْ، بعد أن نحذف التاء لأنها تاء مخاطبة ليست من أصل الكلمة.


فرسم الكلمة إذن (س/0// ط/1// ع/0//) الصفر سكون، والرقم حركة.
إذن: الحروف الأساس في الكلمة هي (س ط ع)


هذه رسوم لأصوات، كأي حروف أخرى. وكل صوت لغوي له دلالة ومعنى، سواء عرفناه أم جهلناه. وهذا يعني أن (س ط ع) هي ذاتها أينما وردت في الكلام. مما يقودنا إلى الجذر (سطع). ولا تتخيل أني أقول إنّ استطاع من سطع. كلا، ألتزم هنا بالنهج المعجمي، هي من (ط و ع) ولكن هذا الجذر ظهر منه مشتق متكون من (س ط ع) فالتقى مع مشتق من الجذر سطع.


إلى أين يقودنا هذا؟

يقودنا إلى أن حذف التاء، وإبقاء الحروف الثلاثة، أفاد دلالة بليغة على استنكار عدم إيفاء النبي موسى بما التزم به من صبر وطاعة في قوله: (قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا. قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)(الكهف 69-70).


ما الدليل على هذا الاستنكار؟

الجواب: إن (س + ط + ع) دالّ على ذلك. فالسَّطْع الضرب بصوت عالٍ، كما يضرب الحداد بمطرقته على سندانه. ومنه قيل للتصفيق المرتفع الصوت سطعًا. وسمعتُ لضربته سَطَعًا. فكان (لَمْ تَسْطِع) جامعا للمعنيين، عدم مطاوعة موسى (وهذا من الجذر طوع)، واستنكار ذلك بحذف حرف التاء وإبقاء حروف (س ط ع) ذات الحدّة والشّدّة بدلالتها على الصوت العالي المرتفع. وأدى تغيير الحركات ما بين (س/1// ط/1// ع/1//) و(تَ – س/0// ط/1// ع/0//) إلى تغيير في كيفية الصوت المستنكِر ودلالته.


وقد تسأل: لماذا لم يحدث هذا في الآية 78؟ يبدو لي أنّ السبب يعود إلى أنّ موسى في تلك المرحلة لم يكن قد عرف جواب أسئلته، فكان التعبير أكثر يُسرا وليونة، أما في الآية 82 فقد انتهى الأمر إلى تشديد الاستنكار، حسب ما تدل عليه الصياغة اللغوية، وذلك لتحقيق الأهداف المتشعبة للقصة.


النتيجة: إن التقارب الصوتي بين التاء والطاء ساعد على دمجهما معا تخفيفا للفظ لأداء معنىً جديد.

———————-

د. هادي حسن حمّودي