في منتصف التسعينات من القرن الماضي، كنت برفقة والدي في زيارة لمكتب الأستاذ أحمد فراج في الجيزة للإعداد لسلسلة حلقات تتناول الحديث عن الفقه الإسلامي ومكانته المتميزة بين التشريعات القانونية المختلفة، وكان مشاركا في تلك الحلقات وفي جلسة الإعداد لها المستشار طارق البشري، اتخذ الوالد والمستشار طارق البشري والأستاذ أحمد فراج أماكنهم علىٰ طاولة الاجتماعات بالمكتب، وجلست أنا على أريكة جانبية خلف المستشار طارق البشري مباشرة، أتابع حوارهم ومناقشاتهم الثرية بإعجاب شديد، وفجأة نهض المستشار طارق والتفت موجها كلامه إليَّ في صيغة الاعتذار -وأنا في عمر ابنه وهو من هو علمًا ومكانةً- أنه قد شغله الكلام حول الإعداد لموضوع الحلقات عن أن يلاحظ أنه قد جلس وظهره إليَّ وأن هذا لا يليق، وأصرَّ علىٰ أن يُعدِّل هو جلسته أو أن أغير أنا مكاني، فغيرت مكاني نزولًا على رغبته بحيث أصبحت في مواجهة الثلاثة تقريبًا، بقيت مذهولًا من هذا الموقف لعدة ثوان ثم تابعت إعجابي بمناقشاتهم العلمية والفكرية الرائعة.

المستشار طارق البشري.. لَـمْـحَـةٌ دَالَّـة

لا أجدني هنا في حاجة إلىٰ بسط الكلام عن الدلالة الكبيرة لهذا الموقف البسيط العابر، فإن فيه لمحةً دالَّة علىٰ مجموعة من السمات الشخصية والأخلاقية التي يكون بها الكبارُ كبارًا حقًّا.

 

سُجِّلَتْ الحلقات بعدها، ثم عُرِضت واستفاد منها الناس ما شاء اللّٰه لهم أن يستفيدوا، واستمرت الحياة، ومرَّت السنوات، وتتابعت الأحداث، ولكني لم أنسَ يومًا هذا الموقف الإنساني الراقي.

 

رحمهم اللّٰه جميعًا وجزاهم بما قدَّموا خير الجزاء ورزقهم الفردوس الأعلىٰ من الجنة.

من د. علي محمد عودة

أستاذ متخصص في تاريخ الحروب الصليبية، وتاريخ العدوان الفكري الغربي على الإسلام