من المهم قراءة مقدمات المحققين لكتب التراث وذلك لما فيها من إفادة يتحصّل عليها القاريء قبل المضي في الكتاب الذي بين يديه، فالمحقق لا يقدم فقط إضاءات عن المؤلف وعصره، ولا توطئة عن السياق الذي ظهر فيه الكتاب، وإنما – وهذا هو الأهم – يقدم نبذة عن منهج صاحب الكتاب، وبالأخص تقييم مصادره التي اعتمد عليها ومقدار أصالتها ومدى موثوقيتها، لنخوض بعد ذلك غمار الكتاب ونحن على بينة مما سيقابلنا من صفحاته.

 

اليوم مثلاً كنت أقرأ في كتاب «في التاريخ العباسي والفاطمي» لمؤلفه، أستاذ التاريخ الدكتور أحمد مختار العبادي، فوجدته كثير الاستشهاد بالطبري وابن الأثير، فقلت في نفسي لماذا لا أقرأ عن هذه الفترة من هذين المصدرين الكبيرين ولا أدع وسيطا بيني وبينهما. وبالفعل؛ حمّلت كتاب تاريخ الطبري (ت 310 هجريا) باعتباره الأصل الذي رجع إليه ابن الأثير (ت 630 هجريا)، وما إن بدأت أقرأ مقدمة المحقق الأستاذ أبو صهيب الكرمي، حتى وجدت الإفادة التي عادت عليَّ أكبر بكثير مما كنت أعتقد، ذلك لأن الرجل، كما قلت آنفاً، لم يكتفِ بالترجمة لمحمد بن جرير الطبري وذكْر الملامح العامة لعصره وإنما تعرّض لمنهجه في الرواية والنقل والسرد والتأليف، وحلل مصادره التي أكثر من الرجوع إليها ولا سيما محمد بن إسحاق (150 هجريا) و محمد بن عمر الواقدي (ت 207 هجريا)، وأورد فيهما ما ذكره علماء الجرح والتعديل، فإذا بالأول ضعيف الإسناد في “كثير جداً” مما يرويه، والثاني «لا شيء» و«يفتعل الحديث» و ليس هناك من هو “أكذب منه” وكثير من مروياته «مجهولة الأسانيد»، ثم يقول المحقق: … وبعد، فهذه مقدمة لابد منها للدخول في كتب التاريخ، إذ كثير من المثقفين ّيظن أن الحدث إذا ذُكر في كتاب تاريخ صحَّ دونما ريب….، ويضيف إن محمد بن جرير الطبري عمد إلى الكتابة بهذا المنهج ومسوّغه في ذلك أن مهمته هي تدوين كل ما وصل إلى علمه وسمعه، وأنَّ على الباحثين والمدققين من بعده – كما يقول الطبري – غربلة هذا الكم الذي يختلط فيه الصحيح بالخطأ والقوي بالضعيف، وأنه يكفيه أن جمع ما جمع وحافظ  على كل هذه المرويات والسرديات، وأن مهمة تنقيتها تقع على عاتق من يأتي بعده.

 

ويختم المحقق مقدمته بالقول إن ابن الأثير وابن خلدون اعتمدا على الطبري دون غربلة أو تمحيص فكانت كتاباتهم أيضا بحاجة إلى تدقيق منهجي سليم.

 

فإذا كان هذا هو حال الطبري وابن الأثير وابن خلدون في مؤلفاتهم التاريخية فكيف بحال الكتاب الذي دعاني لهذا كله وهو كتاب الدكتور أحمد العبادي عن التاريخ العباسي والفاطمي.

 

مشكلة؛ حقاً لدينا مشكلة في توثيق تاريخنا السياسي والاجتماعي والفكري، وإن السلامة تقتضي أن ندرسه بعقل بارد دون ربطه بهوية أو كرامة أو عز أو فخار أو أي شيء من هذه العواطف والمشاعر التي قد تستهوي النفوس لكنها لا تبني وعيًّا ولا تؤسس رؤية.

من د. حسين شحاتة

خبير استشاري في المعاملات المالية الشرعية