كتبت متسائلا: كيف ضل كثير من المسلمين، اهتموا بالباطن دون الظاهر أو العكس؟.. وكتبت أيضًا عن انحراف الصوفية الذين اهتموا بالباطن على حساب الظاهر فضلوا..

وكتبت كذلك عن الذين اهتموا بالظاهر وأهملوا الباطن وأوجه ضلالهم.. وكان هذا كله من منطلق تمحيص قضية «التكامل في شخصية المسلم بين الظاهر والباطن»..

ومن خلال تحليل القضية وجدنا أشكالاً من الضلال والبعد عن جوهر الإسلام نتيجة الخلل في عدم تكامل الظاهر والباطن.

وفي رأيي الشخصي أن هذه القضية تستوعب غالبية صور وأشكال وأنواع الزيغ والضلال الذي قد يصيب أهل التدين:

(1)

لكن تبقى صورة المسلم العادي الذي يقيم الصلاة وربما يحافظ على إخراج الزكاة والصدقات ويصوم رمضان ويحج.. ويسمع الوعظ الديني ويطرب له.. ويصف نفسه ويصفه الناس بأنه مسلم ملتزم الالتزام الحقيقي غير المتطرف، لكننا نلاحظ بسهولة أن التدين في هذه الشخصية شكلي ومنفصل عن السلوك، بمعنى أن السلوك في الواقع منحرف ومتعايش مع الحرام، بل منغمس فيه.

(2)

نجد كثيرًا من هذه النوعية في مواقع قريبة وظيفيًا من المديرين أو المسئولين عن الأعمال في الشركات وغيرها، قد يكون لهم لحية صغيرة وزبيبة صلاة وقد لا يكون.. النفاق وتبرير الأخطاء للمسئولين هو أهم صفاتهم.. فلا يقولون الحق، ولا يشهدون به، إنما ينصرون المسئول بالحق والباطل، ولا يغيثون الموظف الصغير لو كان مظلومًا.

(3)

إذا كان هذا الشخص موظفًا نجده معطلاً لمصالح الناس، ومسيئًا في التعامل معهم، وقد يطلب الرشوة ولكن يسميها بغير اسمها.

(4)

في حياته الاجتماعية نجده لا يعبأ ببناته ولا زوجته: ماذا يلبسون وكيف هو سلوكهن وأخلاقهن؟ ولا يعبأ بأهل بيته: ماذا يشاهدون في التليفزيون؟ وما هم رفقاؤهم؟ وكيف تسير تربيتهم؟

(5)

الكذب شائع في هذه النوعية من أدعياء التدين.. وكثيرًا ما تكون السجائر والشيشة أساس القعدة.. والمجاملات التي أساسها الخداع والنفاق موجودة.. والتحايل والتلاعب والغش وسائل للحصول على الحقوق وغير الحقوق.

(6)

هذه النوعية من أدعياء التدين يترددون على المساجد بكثرة ويهتمون بالعبادات.. لكنهم منفصلون عن حقيقة التدين التي هي في الأساس سلوك وعلاقات مع الناس.. فالتدين لابد أن تكون له ثمرة.. وثمرته هي حسن الخلق وحسن المعاملة.. والبعد عن الغيبة والنميمة والرياء والنفاق.. والبعد عن ذم الناس وسبهم وإهانتهم.. واستحضار الصدق والأمانة.. الخ.

(7)

موازين العدل وحقوق الناس والخوف من الظلم وإنصاف المظلوم ورد كل المعاملات إلى قانون الحق والباطل والحلال والحرام.. هذه الرؤية الشاملة التي هي ترجمة لحقيقة الدين وروحه .. كل ذلك غائب عن هذا القطاع من أدعياء التدين.

(8)

تم تأكيد هذا النمط من التدين في المجتمع عن طريق الممارسات اليومية وعن طريق المسلسلات والأفلام والبرامج.. فتاجر المخدرات أو المحتكر أو التاجر غير الأمين وغير الصادق.. تصبغه الصبغة الدينية، ويمسك بالمسبحة، ويصلي، ويساعد الفقراء لتغطية فساده ومكاسبه الحرام.. فيشير إليه الناس: هذا هو المتدين الحقيقي وليس الجماعات الإسلامية تجار الدين!!

(9)

وهكذا فإن التدين الذي يريده كبار المجتمع وأغنياؤه وأهل الفن والأدب والسياسة فيه، هو التدين «الكيوت» أو «اللارج» أو بمعنى آخر «المفرّغ من أي مضمون» الذي لا يسبب أية مشاكل لأي أحد، ولا يعترض على أي شيء، ولكنه يجاري ما يحدث في المجتمع ويتعايش معه، فما تعارف عليه المجتمع -ولو كان حرامًا- فهو معه بكل جوارحه، وما منعه المجتمع -ولو كان حلالاً- فهو ضده بكل ما يملك!!

(10)

حتى المسلم البسيط، الذي يبتعد عن كل السلبيات السابقة، ويؤدي العبادات، لكننا نجده -للأسف- قد تم تفريغه من روح الدين وأهدافه العليا ومقاصده ومضامينه، لذلك نجده منساقًا خلف أكاذيب وسائل الإعلام، يرددها كالمغيب.. لا ينقطع عن الصلاة في المسجد.. لكن إذا استبشرت بوجهه وأنت خارج من المسجد وأردت أن تتبادل معه بعض الكلمات.. وجدته مؤيدًا للظلم والظالمين، لاعنًا وسابًا لأهل الحق والمظلومين.. في غياب كامل لأية رؤية دينية حقيقية وعميقة، وفي غياب لأي ضمير حي، ولأي روح إنسانية، وفي ضياع منقطع النظير لبوصلة الحق.

(11)

هذا هو المتدين الميت، الذي لا قيمة له، ووجوده في المجتمع إضافة سلبية لهذا المجتمع وعائق أمام تطوره، وغيابه أفضل من وجوده.. وهذا النموذج السيئ والمسيء هو المحبب للجهات الرسمية، لأن بديله هو تدين الجماعات الإسلامية المكروه والرذيل والمزعج.

من د. منير جمعة

عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين