المرحوم رضا أفندي إبراهيم آغا.. تطبيق عن الفطنة والذكاء والحكمة والسياسة في حل الأزمات..

 

تطرقت في الحلقة السابقة (الحلقة الثانية) إلى تعريف علم السياسة من المنظور الديني وعلاقتها مع العلوم الأخرى، وجوانب العلاقة بين السياسة والتفكير، واختتمت المقال بتعريف مبسط عن الفطنة والذكاء والحكمة والسياسة في حل الأزمات.

 

وسيكون مقال اليوم حول أمثلة حية عن تطبيقات الفطنة والذكاء والسياسة في حل الأزمات.

 

وقد وردت آيات كريمة كثيرة عن الحكمة التي هي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم منها: قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} البقرة – الآية 269، و{ويَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} البقرة – الآية 129.

 

وقد وردت أقوال مأثورة عن الحكمة والفطنة والذكاء وكلها تُعبِّر عن «إن الأمة أو الشعوب الفاضلة ذات الحكمة والمعرفة الكاملة أو حتى الأشخاص الأفاضل هي تلك التي تتمتع بالفطنة والذكاء والحكمة والعبرة،  فهذه هي أعمدة السياسة وطرق الوصول إلى حقائق الأشياء والأمور».

 

وبناءاً على مقولة جون سي. ماكسويل مؤلف كتاب «21 قانوناً لا يقبل الجدل في القيادة» وكتاب «21 صفة لا غنى عنها في القائد» الذي قال : «الذكاء والمعرفة مصادر أساسية ولكن الفعالية وحدها تحولها إلى نتائج»، وقد ارتأيت أن أقدم للقراء الأعزاء مثال عن هذه الحكمة ، وكيف أن المرحوم رضا أفندي إبراهيم آغا، صاحب هذه الحكمة والذكاء أستطاع أن يحيد كارثة كادت أن تقع في منطقة تسعين القديمة «أسكى تسين» ويكون ضحاياها من الأبرياء ؛ وقد هدمت السلطة السابقة منطقة تسعين القديمة بين الأعوام 1984- 1987م .

 

تبدأ القصة بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1918م والتي أدخلت البلاد في أزمات اقتصادية وسياسية حادة، وانتشرت الأمراض والمجاعة، وكان الناس يموتون في الشوارع ويقوم أهالي المنطقة بدفنهم ، وسميت المجاعة «قِرْطمَه» باللهجة المحلية في تسعين القديمة، وانتشرت عمليات السطو والسرقة، واضطر أهالي تسعين القديمة إلى حراسة منازلهم ومزارعهم.

 

وقد حاولت مجموعة من اللصوص من القرى المجاورة سرقة محصول الحنطة الخاصة بأهالي البلدة، وتصدى لهم عدد من حراس المزارع من عائلة «عبوش» التركمانية المعروفة، وقيل أن شخصاً من هؤلاء اللصوص قد جُرح، وهبت عشيرة المجروح بطلب الفدية، أو الهجوم على تسعين القديمة مطالبة بالثأر والتعويض المادي، وأقبلت مجموعة من شيوخ عشيرتهم إلى تسعين القديمة لحل هذه الأزمة، وقابلهم المرحوم رضا أفندي إبراهيم آغا (والد المرحوم الشاعر جلال رضا أفندى) في مقر الديوانية أو المضيف «ديواخانه» الخاصة بعشيرتهم (عشيرة الآغا).

 

واستخدم المرحوم فطنته وذكائه السياسي في إنهاء قضية الفصل والثأر بكل دراية وحكمة، وطلب من بعض شباب تسعين القديمة أن يحملوا بنادقهم ويدخلوا إلى المضيف كلما يُنادي عليهم، وأن تُسلّم المجموعة الأولى أسلحتها إلى المجموعة الثانية عندما يطلب منهم دخولهم إلى المضيف بشرط تبديل شكل الأسلحة إما بتزينها بشد بعض الأشرطة الملونة أو بإلصاق بعض اللاصقات الملونة عليها، وأن تسلم المجموعة الثانية أسلحتها إلى المجموعة الثالثة مع إعادة تغيير شكل الأسلحة من جديد وهكذا، وتكررت هذه العلمية لأكثر من عشرة مرات، وفي كل مرة يدخل المضيف مجموعة من الشباب مع أسلحة مختلفة، وظن شيوخ العشيرة العربية أن أهالي المنطقة جميعهم مزودون بالأسلحة، وأن لهم مقاتلين وأسلحة كثيرة، وهذا أمر يُحسبُ له ألف حساب عند قضايا الفصل والثأر، وبذلك تنازلت هذه العشيرة عن قضية الفصل وطلبوا الصلح بشرط أن لا يَعتدي الطرفين على الآخر، وبذلك أنهى المرحوم رضا أفندي قضية كبيرة كادت تُؤدي إلى فقدان أرواح كثيرة من كلا الطرفين.

 

إذن الفطنة والذكاء والحكمة والسياسة في حل الأزمات من الصفات الضرورية التي يجب أن يتحلى بها السياسيون، أو بالأحرى يمكن أن نُسميها بالمناورة السياسية، وهي صفة أساسية ضرورية في إدارة الدفة السياسية للتركمان لنيل حقوقهم المشروعة. والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل قرأ السياسيون التركمان مذكرات السير ونستون ليونارد سبنسر تشرشل، رئيس الوزراء الأسبق في المملكة المتحدة؟ وهل استفادوا من تجارب هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق الذي سُمي بثعلب السياسة الأمريكية ؟ وهل تصفحوا صفحات التاريخ السياسي للسيناتور الجمهوري المخضرم جون ماكين؟ وهل قرأوا كتاب «الأمير» دراسة في الفقه السياسي لنيكولو مكيافيلى سنة 1513م، وكتاب القوة (Power) لروبرت جرين، في العلوم السياسية والقوة، وآلاف الكتب السياسية التركية والعربية والأجنبية، والجواب أتركه لكم.

 

نبذة عن حياة المرحوم رضا أفندي إبراهيم آغا: ولد المرحوم رضا أفندي إبراهيم آغا عام 1864م في قرية تسعين القديمة.. تعلم القراءة والكتابة في الكتاتيب وعلى يد ملالي تسعين القديمة، وكان من مثقفي القرية لذا التصق به لقب الأفندي أو «أفاندى» بالتركمانية. حصل على وظيفة مداوم في محكمة كركوك، وترقى إلى وظيفة كاتب مستنطق أو «باش كاتب/كبير الكتاب» في المحكمة نفسها، وبعد سنوات من العمل الدءوب أصبح مديراً لدائرة نفوس كركوك، وبقي في وظيفته حتى وافته المنية عام 1924م.

 

كان المرحوم رضا أفندي من كبار الأدباء والكتاب التركمان، وأهتم أيضا بالزراعة ، وكانت له مزارع وحقول زراعية شاسعة، وكان له مضيف خاص به أو «ديواخانه» بالتركمانية، وقد تولى نجله الشاعر جلال رضا أفندي إدارة المضيف بعد وفاته ؛ وكان يجتمع في المضيف الأدباء والشعراء ومتذوقوا الأدب من الطلبة والشعراء الناشئين، وُتلقى فيه القصائد الشعرية، ويُدار فيه الحوارات بشأن الأدب والدين وغيرها من الأمور الاجتماعية والثقافية.

 

على أمل اللقاء بكم مجدداً في موضوع الحلقة الرابعة : «معنى كلمة السياسة والسياسي»

من د. معراج أحمد الندوي

أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها جامعة عالية، كولكاتا الهندية