دروس في السياسة وتأثيراتها على الساحة السياسية التركمانية| الحلقة الثانية.. تعريف علم السياسة

عِلمُ السياسة هو عِلمٌ واسعٌ وشاملٌ يضم في حواياه كل المتعلقات الخاصة بالحياة الاجتماعية، ولها علاقة وطيدة بالعلوم الأخرى، وهو جزء من الحياة لا يمكن الاستغناء عنه. ويرى المختصون في علم السياسة وجود علاقة واضحة بين السياسة والتاريخ، وبالنتيجة بين الإستراتيجية والتكنيك كما أوضحته في الحلقة الأولى، ويُضاف إلى هذه  العلاقات العلاقة بين السياسة والتفكير، والتفكير هبة وهبها الله (جل جلاله) وعظم شأنه للبشر، وفضَّله على المخلوقات الأخرى. وقد وردت آيات قرآنية عديدة دلَّت على الفكر والتفكير، منها:

 

{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} آل عمران -191.

 

{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَإِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الرعد – 3.

 

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} العنكبوت – 20.

 

وقد وهبَ الله (جل جلاله) للإنسان القدرة على التأمل والتفكير، وأصبح أهلاً للتكليف بالطاعات وبالعبادات، ووهبه تحمل المسؤولية والاختيار بين الخير والشر والإرادة، والتفكير في خلق السموات والأرض.

 

وقد قسَّم المختصون في علم الاجتماع كلمة «التفكير» إلى أنواع: التفكير السياسي، والتفكير الإبداعي، والتفكير المعرفي، والتفكير التقليدي، والتفكير الناقد، ولكنهم أكدوا بالإجماع أن التفكير السياسي هو أرقى أنواع التفكير، وألحقوا به الوعي السياسي الذي هو من الضرورات لرقي المجتمعات والشعوب، وترعى شؤون الفرد والجماعة والشعوب سواء في داخل الدولة أو في خارجها.

 

ورب سائل يسأل أن موضوع المقال هو السياسة، فما هي علاقة التفكير بالسياسة؟  فالجواب هو أن السياسة هي أرقى أنواع التفكير، وعلم السياسة هو علم وفن وفلسفة، وقد مارسها الإنسان منذ أن خُلِقْ، وجعل الله منهم القبائل والشعوب.

 

عودة إلى كلمة السياسة مرة أخرى ومعرفة أصلها نجد أنها كلمة مشتقة من الفعل «ساس ويسوُسُ»، ومعناه سيَّر، ورتَّب شؤون أمرٍ ما، ونَظَم وعالج الأمر أو دَبَّره. وعندما يُقال سَاسَ الأمر فمعناه هو القيام بأمر من الأمور المتعلقة بأفراد مجموعة من المجموعات البشرية أو قومية معينة ضمن المبادئ والقواعد الثابتة التي أثبتت التجارب صحتها ونتائجها.

 

وتُعرًّف السياسة أيضاً أنها مجموعة الإجراءات والأساليب المستخدمة لمعالجة جميع الأمور المتعلقة بالأفراد أو المجاميع المنتسبة إلى قومية معينة ضمن الأطر التي ترعى حقوقهم المشروعة في الدولة، وفي توزيع النفوذ والقوة داخل المؤسسات الحكومية المدنية والعسكرية والقضائية والتشريعية، وكسب السلطة في الحكومة، والتأثير عليها لخلق التوافق بين كافّة التوجّهات الإنسانية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وغيرها، وبالنتيجة الحصول على الحقوق والمكتسبات التي سُلبت أو لم تُعطى بعد.

 

والسياسة عامل مهم في تنظيم الحياة من جميع النواحي في شتّى المجتمعات البشرية التي تَنتشر على سطح البسيطة.

 

ويرى البعض وخاصة عند عامة الناس أن السياسة هي طريقة لمعالجة أمر ما، ويُقال للشخص الذي يتميز بالفطنة والذكاء والحكمة والكياسة، ويقوم بمعالجة أمراً ما بطريقة سياسية بالشخص السياسي، ويتجلى لنا مثال هذا المفهوم عند معالجة وجهاء القرية في الديوانية «ديوانخانه» بالتركمانية بمواصفاته المذكورة أعلاه في حل القضايا المتعلقة بأمور الحياة. ومن أمثلة استعمال الذكاء والفطنة والحكمة والسياسة في معالجة الأمور هو ما قام به المرحوم رضا أفندي إبراهيم آغا الذي وُلِدَ عام 1864م في تسعين القديمة «أسكى تسين» في حل أزمة كادت أن تؤدي بحياة العشرات من الأبرياء ؛ وهو والد المرحوم الشاعر جلال رضا أفندي، وسيتم ذكر القصة في الحلقة القادمة إن شاء الله . والسؤال الذي يدور بخاطر الشعب هو: هل أن السياسيين التركمان ملتزمون بهذا التعريف والتفسير؟ وهل عملوا بها لإنقاذ الشعب مما آلت إليه الأمور؟ وهل تحملوا المسؤولية والإختيار بين الخير والشر؟ وهل أدركوا معنى التفكير السياسي، والتفكير الإبداعي، والتفكير المعرفي، والتفكير التقليدي، والتفكير الناقد؟  أسئلة تحتاج إلى أجوبة.

 

وأختتم مقالتي بتوصية سياسية وهي التركيز على الإستراتيجية والتكتيك، لأن الإستراتيجية التي تُبنى على أسس ونُظٌمٌ غير سليمة  فلا يمكن إصلاحها بالتكتيك.

 

على أمل اللقاء بكم مجدداً في موضوع الحلقة الثالثة: أمثلة حول تطبيق الفطنة والذكاء والسياسة في حل الأزمات (قصة المرحوم رضا أفندى)…

من د. معراج أحمد الندوي

أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها جامعة عالية، كولكاتا الهندية