عن عنصرية النفوس.. حرم الإسلام كل أنواع العنصرية -مثل العنصرية الفردية أو عنصرية الجماعة أو عنصرية الدولة- التي تقوم على الإساءة للآخرين والتحقير من شأنهم.

 

وإن من خطر التكبر أو التمييز أنه يفضي بصاحبه إلى أن يتعامل بعنصرية وإساءة إلى غيره وسنفصل في هذا الأمر ونقول  العنصرية الفردية أو النفسية هي ذلك التعصب الذي يظهره بعض الأفراد لفكرة معينة أو لعرق معين بحيث، يظهر رفضه للآخرين -ليس لفكرهم وإنما لوجودهم- على هيئة تصريحات أو كلمات، و قد يتطور ذلك التعصب فيتحول إلى أعمال إجرامية يطول بها كل من يتعصب ضده، وهذا النوع من التعصب وإن كان أهون الأصناف المذكورة ، فإنه لا غنى عنه للصنفين الآخرين فلن تكون هناك عنصرية للجماعة ، وللدولة من غير إذكاء العنصرية الفردية فيصبح ذلك العنصري قنبلة موقوتة في يد الفكر العنصري أو الدولة العنصرية تحركها كيف شاءت.

هل في الإسلام عنصرية

الإسلام لا يرفض الآخرين، وإن كان يختلف معهم ، بل ويحترم اختيارهم فلا يجبرهم على الدخول فيه من غير اقتناع يقول تعالى: (وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين ناراً أحاط بهم سرادقها..) الكهف /29… وهو كذلك يتبرأ من كل كفر، ويعمل على إنهائه بالدعوة إلى الحق وبالجهاد في سبيل ذلك بالنفس والمال، ومع ذلك فالإسلام لا يسمح بأي عمل من أعمال الإكراه أو الظلم للآخرين بل كثيراً ما تمتعت الأقليات غير المسلمة في ديار المسلمين بما لم تحصل عليه داخل بلادها التي يتحكم فيها الطغاة،(1) وقد أقر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وفد نجران -وكان عددهم ستين وافداً- على نصرا نيتهم، بعد أن عرض عليهم الإسلام فاختاروا الجزية، فهناك فرق إذن بين الانتماء للإسلام وحب الالتزام به والممارسات العنصرية التي لا يقرها عقل أو شرع حيث يتصرف صاحبها على غير هدى وبغير اعتبار آدمية الإنسان تلك التي احترمها الإسلام، فأين ذلك من عفو الرسول، صلى الله عليه وسلم، عن كفار مكة وشفقته عليهم كلما ناشدوه الرحم.

 

من مظاهر العنصرية التي جنتها علينا التعصب للجنسيات:

 

1- يثمر مشروعية العداء والقتال بين المسلمين: فهم ينظرون إلى الآخرين على أنهم أجانب (حتى المسلمين)، وما دام الأمر كذلك فيجب وضع قيود على وجودهم أو الحد منه كما يجب صدهم عن ثروات البلاد ولو استدعى ذلك قتالهم، وكم أنفقت من ثروات الأمة الأموال الطائلة ليس لحرب الأعداء وإنما لحماية الدولة من جيرانها.

 

2- الوقوع في محاذير شرعية: مثل الفخر بالأحساب أو الطعن في الأنساب بسبب الجنسية كما يورث ذلك استعلاء وكبراً على خلق الله تعالى إذا كان المسلم ينتمي إلى جنسية غنية أو قوية (والجسم قد يتورم بالطفح الجلدي وكذلك المجتمعات تتورم بسبب الجنسية أو القومية حتى يظن بعضها بسبب تورمه، أن شعبه يفوق الشعوب، وأنه فوق أجناس البشر كما تورمت ألمانيا أيام هتلر، وإيطاليا أيام موسوليني) (2)

 

والكبر عاقبته وخيمة من مقت الناس وهجرهم لصاحبه وحقدهم عليه في الدنيا ، ومن غضب الله تعالى على صاحبه وعقوبته له في الدنيا والآخرة. روي رسول الله، صلى الله عليه وسلم، عن رب العزة جل وعلا في الحديث القدسي: (العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري). (3)

 

(بينما رجل يجر إزاره -أي كبراً- إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة) رواه البخاري(4)

 

3- الأثرة والشح: حيث يظن المسلم أنه أولى من غيره بخيرات البلد الذي يحمل جنسيته حتى ولو أن الآخر يقيم معه فيه، وكثيرا ما يتردد على الفكر العنصري: أن صاحبه يوافق على تميزه في جميع الأحوال كالراتب -مثلا- على غيرهم من زملائهم المغتربين الذي يقومون بنفس العمل،  لأن هذه بلادهم وهم أولى بها.

 

وبعكس ذلك أمر الشرع الذي نهى عن الشح والأنانية (اتقوا الشح فإنه أهلك  من كان قبلكم : أمرهم بالبخل فبخلوا وبالقطيعة فقطعوا).(5) وهذا نراه في التنازع على بعض أشبار من الأرض بين كثير من بلاد المسلمين، لا سيما عند ظهور بعض الخيرات في الأرض المتنازع عليها *.

4- تفتت الأمة: باختلاف وجوهها، واختلاف وجهتها وقد قال تعالى (ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) الأنفال (46)، وما المانع بعد تقسيم الدول وبيان حدودها أن يعاد تفتيتها وتقسيمها إلى دول أصغر، ولعل هذا ما تحاوله الآن الدول الغربية في محاولة تقسيم العراق إلى دولة شيعية وأخرى سنية وثالثة كردية، أو محاولة تقسيم السودان إلى دولتين أو الطموح إلى تقسيم مصر نفسها إلى دولتين.

 

5- الوقوع في تسلط الحكام وتقييد الحريات: فقوانين الجنسية تعطى للحاكم الحق في منحها وفي بعض الأحيان إسقاطها هو ما يمنح المستبد منهم فرصة للتسلط على الناس كما أن انفراده بالسلطة دون مرجعية أخرى يثبت فكرة التسلط إذ لا يحاسبه خليفة ولا يتحكم فيه إمام، وتظل مصلحة شعبه (الضيقة) تحركه أو ربما حركته مصلحته الشخصية دون غيرها.

 

أما تقيد الحريات: فيظهر ذلك في عدم سماح الدول بدخول المسلمين إليها إلا بعد حصول على تأشيرة مسبقة، وقد يكون بعيداً على المسلم أن يدخل بلداً من بلاد الأغنياء يبحث فيها عن عمل مثلاً، كما أن بعض الدول لا تسمح لرعاياها بدخول بلاد معينة إذا رغب في السفر إليها ، وقد رأيت جوازاً لإحدى الدول مكتوب عليه (يسمح بالسفر إلى جميع الدول، ما عدا الدول الممنوعة، وان كان يجوز المنع في السفر إلى بلاد الأعداء -كـ«إسرائيل» مثلاً- لكن الأمر لا يتوقف عند هذا، وإنما يتعداها لغيره من بلاد المسلمين.

 

فتلك بعض مساوئ الأخذ بنظام الجنسية. **

فإذا قيل كيف يمكن التغلب على تلك المساوئ في ظل غيبة الخلافة  الجامعة، فقول: في حالة غياب الخلافة، فيجب إلزاما أن تسمح الدول المسلمة  للمسلمين جميعا أن يمارسوا حق التنقل بينها والإقامة في أي مكان يرغبون فيه، ولا يقيد ذلك بقيد إلا لمصلحة -كمنع المجرمين مثلاً-، فإذا أقام المسلم في بلد فله أن يتزوج من أهله وأن يعمل وأن يتساوى في الأجر مع مثيله من سكان البلد، والأوروبيون الآن  يقومون بنفس العمل ويمنحون الجنسية لطالبيها من رعايا الدول الأوروبية الأخرى بل ويوحدون نظام العملات في بلادهم ونحن أولى بكل ذلك منهم.

 

هوامش

 

(1) انظر الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، المكتب الجامعي الحديث بالإسكندرية من 434 ، وقد أسلم أكثرهم بعد ذلك.

(2)  فقه الجنسيات ، ص 47

(3) رواه أبو داودج2/29حديث4090 قال العجلوني : وفي مسلم بلفظ عذبته حديث1912

(4) البخاري ج2/64حديث3297

(5) رواه مسلم عن جابر عن عبد الله ص 36 الجزء الثامن مطبوعات محمد على صبيح وأولاده ميدان الأزهر مصر.

* ومثلا ذلك النزاعات التي زرعها الاستعمار عند رحيله من كثير من بلادهم : بين مصر والسودان ، والسعودية واليمن وقطر البحرين وغير ذلك.

** هناك بعض  الفوائد لكنها لا ترقى إلى مستوى يرجح الأخذ بالجنسية (مع ما سبق من مآخذ) مثل: تقوية أوضاع المجمع وتبادل المنافع بين أفراده.

من رياض المسيبلي

كاتب يمني، وباحث مهتم بالتاريخ الثقافي