اقرأ هذه الأيام كتابا بديعا، لا نظير له، وهو «البلاء الشديد والميلاد الجديد» للأسير الكويتي في جوانتانامو فايز الكندري، لو أمدَّ الله في عمري وأنهيته، فسأكتب عنه إن شاء الله مقالا واسعا..

 

يحكي الكتاب تجربة 14 عاما من الأسر في سجن، أريد منه «ترويض الخيول الجامحة»، حيث سلَّط الأمريكان نظرياتهم في علم النفس والاجتماع على هؤلاء الأسرى، فلم يكن هذا السجن متوحشا كبقية السجون العربية أو الروسية أو الصينية، بل كان سجنا بُنِيَ على علمٍ، كأنه معمل تجارب!

 

كثير من التفاصيل الشيقة والمريرة استغرقها الكتاب، وهو كتاب غزير الفوائد، لكن الذي أريد التركيز عليه في هذا المنشور، هو قدرة الأمريكان المثيرة للإعجاب -مع كامل البغض والكراهية- لتوظيف الاختلافات البشرية، وللاستفادة من الخلافات بين جنودهم وبين أعدائهم كذلك.

وكان هنري كرمبتون، مؤلف كتاب «فن التجسس»، وهو قائد العمليات في CIA إبان احتلال أمريكا لأفغانستان، قد ذكر أنهم مع ما جمعوه من مجندين وعلماء نفس ومحللين لم يكونوا بقادرين على استيعاب الأمور، فقرر حينئذ أن يستعين ببعض التلاميذ، من هم أولئك التلاميذ؟

 

إنهم ضباط المخابرات العرب الذين دربهم الأمريكان، لكنهم بوجودهم في بيئة عربية مسلمة قد اكتسبوا من الخبرات ما لا يستطيع الأمريكان أن يكتسبوه، ولما شعر كرمبتون أن بعض فريقه ممتعض من أن يتعلموا فن مكافحة «الإرهاب» من ضابط عربي، قال لهم: دربنا أجهزة ارتباط في كل أنحاء العالم، فلماذا لا نستفيد من بعض من دربناهم؟.. وبالفعل استفاد الأمريكان من تلاميذهم.

 

أعود لضرب بعض الأمثلة في استثمار الأمريكان للاختلافات، من سياق الكتاب الممتع “البلاء الشديد”، فمن ذلك، مثلا:

 

1- اعتقل الأمريكان مجموعة من التركستان المسلمين، ووضعوهم في جوانتانامو، إلا أنهم أحسنوا معاملتهم على غير العادة، بل كانوا يعطونهم الكتب التي لا يُعطاها غيرهم مثل كتاب «مـعا لم في الطريق» لسيّد قطب، وكتاب «أهم فروض الأعيان» لعبد الله عزَّام. مع أن محققا أمريكيا قال ذات تحقيق بأن «قطب» هذا هو أخطر رجل على الغرب في القرن العشرين.

 

ثم أرسل الأمريكان إلى الصين، باستعدادهم لتسليمها هؤلاء المعتقلين، فطار وفد صيني إلى جوانتانامو ليتأكد من هوية المعتقلين، ورتّب الأمريكان بعض الظروف التي ساعدت التقاء المعتقلين بالفريق الصيني، الذي توَعَّد هؤلاء الأسرى بالعذاب العظيم بعد قليل، لدى إتمام اتفاقية التسليم.

 

طلب الأمريكان ثمنا غاليا، لم تبتلعه الصين، فتعرقلت صفقة التسليم.. ثم تحسنت معاملة المحققين الأمريكان للتركستانيين! ثم طلبوا منهم التعاون معهم ضد الصين.

 

وبهذا وضع الأمريكانُ المعتقلين بين خياريْن: التعاون معهم، ودعم الأمريكان لحركتهم التحررية، بالإضافة إلى الوعيد الصيني الذي تلقوه بأنفسهم.. مع ملاحظة أن زوجات أولئك المعتقلين كانوا بالفعل في السجون الصينية في قطعة من الجحيم.

 

الشاهد المستفاد: تأمل كيف رتّب الأمريكان هذا المشهد، الداخلي والخارجي، الأمني والسياسي والدبلوماسي، لكي يستفيدوا من طاقة أولئك ضد الصين.

 

2- استفاد الأمريكان أيضا من تنوع نفسيات الجنود، فبعض الجنود فيهم قابلية للشر والأذى، وبعضهم مطيعون خاضعون للقانون إن أُمِروا بالخير فعلوه وإن أُمِروا بالشر فعلوه، وبعضهم فيه بقية فطرة طيبة..

 

استعمل الأمريكان هذا التنوع في تنفيذ الإرباك النفسي للأسير في جوانتانامو، بحيث لا يتحقق له الاستقرار النفسي.. بعض الجنود اللطفاء كان الأمريكان يصدرونهم في لحظات المواجهة والاحتجاجات و«الشغب« لإجراء التفاوض وتقديم الوعود.. وبعض أولئك اللطفاء يستطيع أن يُجَنِّب فرقة الشغب المكلفة بتقييد حركة «المتمرد» ما قد يواجهونه من متاعب، بما سبق له من معاملة طيبة مع هذا «المتمرد».

 

بعض أولئك كان يقوم بالدوريْن معًا، في عنابر مختلفة، فهو طيب هنا وشرير هناك!

 

3- حاول الأمريكان أيضا الاستفادة من اختلاف الجنسيات، كانوا خمسين جنسية.. دُهِش المحقق كيف اجتمعت خمسون جنسية في بلد فقير ضعيف كأفغانستان.. فحاولوا إقامة سايكس بيكو داخل جوانتانامو!

 

يقول المحقق للأسير العربي: لولا خيانة الأفغان لكم لما استطعنا اعتقالكم، ألا ترون كيف أن الذين جئتم من بلادكم لمساعدتهم قد سلّموكم لنا؟!

 

ثم يقول للأفغاني: لا مشكلة لنا معكم، إنما مشكلتنا مع العرب الذين آويتموهم فنشروا الإرهاب في العالم وضربونا، ولولا أنكم أتحتم لهم هذه الحاضنة لما جئنا إليكم ولا كنتم هنا

 

وبقية الخطة أن يُعزل المعتقلون بحسب جنسياتهم لتتقوى عصبيتهم «الوطنية» فينفرون من غيرهم وتضيق رؤيتهم لمصلحتهم ومصيرهم، ثم يضعون عربيا بين الأفغان، أو كويتيا بين العراقيين، أو سعوديا بين اليمنيين، أو جزائريا بين مغاربة.. يريدون بذلك أن تتفاعل الخلافات “الوطنية” بين الأسرى فيزدادون انعزالا ونفورا من بعضهم، مما يسهل تفتيت تكتلهم وتفجير أخوتهم الدينية.

 

يكفينا هذا من الكتاب..

 

مع استحضار فارق الزمن، وفارق التقنيات، فإن الأمريكان لا يزالون تلاميذ للإنجليز.. لا أكف عن العجب حين أقرأ مذكرات الضباط الذين صنعوا أحداث العالم العربي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

 

السياسة الإنجليزية كانت في غاية البراعة لاستخلاص التناقضات والاختلافات وتوظيفها في مصلحتها.. واستخرجوا قضايا فقهية كانت ميتة لقرون لأنها تفيدهم، مثل قضية قرشية الخليفة لإثارة العرب ضد العثمانيين.

 

ولا تزال هذه سياسة أمنية متبعة، ولست أتذكر عدد المرات التي قرأت فيها أو سمعت، في مذكرات أحد الرموز الإسلامية، قوله: لقد كانت أجهزة الأمن أعرف بنا من بعض إخواننا! إذ ضابط الأمن حريص على الفهم، أما الغالب على الصف الإسلامي فهو الحرص على “الموافقة”، فإن خالفتَه في شيء أو أشياء أخرجك من الصف الإسلامي ونظر إليك نظرة العدو أو حتى العدو المحتمل!

 

وهذه السياسة اتبعها عبد الفتاح السيسي مع الإسلاميين في مصر قبل انقلابهم، كان إخوانيا مع الإخوان، سلفيا مع السلفيين، ليبراليا مع الليبراليين.. ثم وضعهم -كما نرى- تحت حذائه أجمعين!

 

إلى هنا انتهت الفائدة العامة التي أرجو أن ننتفع بها.. وباقي الكلام هنا سيكون عن شأن شخصي غير مفيد إلا لي ولقليل من الناس، فلا حاجة لأن يصرف أحد وقته في قراءة ما سيأتي.

 

ولولا أن كثيرا من الأفاضل الأحباب حثوني على كتابة توضيح ما فعلتُ، فالوقت أثمن من صرفه في مثل هذا.

 

كتب أحدهم منشورا يطعن فيه في حركة عاملة، تقف على ثغر عظيم، وكان صاحبنا هذا -هدانا الله وإياه وغفر لنا وله- قد كتب طويلا وكثيرا في الطعن في هذه الحركة وأمثالها.. أقول (الطعن) لا (النقد)، والفارق بينهما كبير وواضح.

 

ومشكلتي مع صاحبنا هذا وأمثاله، أنهم سريعون إلى تلقف الكلام، ولو جاء من كذّاب أو غير مؤتمن، وسريعون إلى الحكم على أمور لا يمكن الحكم عليها لتعلقها بتفاصيل دقيقة وخفية، وبعضها غير معقول. وأصحابنا هؤلاء لم يرضيهم في عالمنا المعاصر إلا نموذج داعش، فكانوا ألسنته وبعض جهازه الإعلامي.

 

فكتبت هذا المنشور الذي حذفه الفيس بوك، وحظرني أياما بسببه، وتجدونه هنا أو هنا

 

ما آلمني، وكان هو سبب المنشور، ليس كاتبه، بل من أعجبوا به وتفاعلوا معه، وجدتُ بعض أولئك هم من الحريصين على متابعة ما أكتب، فلهذا جاء في كلامي بعض الحدة الذي كان فيه عبارات من قبيل «لا آبه بغضب أحد» و«فمن آذاه هذا الكلام ورأى أنه غير مقبول أبدا، فليفارق بالمعروف».

 

ولهذا ذكرتُ في المنشور «وهذه -بالمناسبة- آرائي منذ قديم، وليست تحولا قريبا ولا هي نتيجة أوضاع جديدة».. كي يكون الناس على بينة مني.

 

كان غرض المنشور ومقصده الوحيد هو تكرار القول في معنى الأولويات، وتقدير أهون الضررين، وقراءة الواقع كما هو كي نحسن النظر والاختيار.. فدافعتُ فيه عن هؤلاء العاملين مثل تلك الحركة الفلسطينية وتلك الحركة الأفغانية وأردوغان (لو أن الفيس يحذف اسم أردوغان فلست أدري ماذا كنت سأسمّيه)

 

ثم مددتُ الأمر على استقامته فذكرت إيران، وذكرت الغنوشي والعثماني.. وكان واضحا في كلامي عن أولئك لهجة المفارقة والتنديد.. كان واضحا لمن أراد أن يقرأ المكتوب.. فالعبارات ثابتة وبيّنة، تصريحا لا تلميحا!

 

فثارت عاصفة هوجاء في دوائرنا المصغّرة، لكن بعض الناس يتوهم أن العالم هو دائرته ويحسب أنه يحرك الرأي العام من خلال منشور على الفيس أو تغريدة على تويتر أو معركة في مجموعة واتس!!

 

هذه العاصفة تتهمني أنني أُمَجِّد إيران وأُلَمِّعها، أو على الأقل: أتسامح مع ما تفعل.. وكل هذه الأمور لم تخطر لي ببال، بل ولا هي تخطر ببال لمن قرأ الكلام متجردا قاصدا لفهمه.. ثم اتهمني سفيه أجوف بأن الاختراق الإيراني أصابني وأنني «أعيد تأهيل المشروع الإيراني»!!

 

وأعجب لرجل لا يملك إلا صفحة على فيس وتويتر، يمكن أن يُحجبا، يملك أن يعيد تأهيل مشروع دولة هي قوة إقليمية!!

 

ولم يكن الكلام إلا أن المشروع الإيراني مشروع معادٍ ومتنافس مع المشروع الأمريكي والصهيوني.. وهذا التنافس والتناقض يعرقل انفراد أحدهم بنا، ولو انفرد أحدهم لكان مصيرنا أبشع مما نعانيه الآن!

 

تماما، مثلما كان حال العالم وهو منقسم بين الأمريكان والاتحاد السوفيتي، كان انفراد الأمريكان بالعالم نكبة عظيمة على المسلمين.. وليس القول بهذا من التلميع والتمجيد للسوفييت!! بل هو من قراءة الواقع: إن تعدد الأقطاب يسمح للمستضعفين بكثير من الثغرات والفرص التي تزول حينما ينفرد قطب واحد بالهيمنة، وهو ما نحن فيه الآن.

 

وهذه العداوة بين أمريكا وإيران هي من حقائق العالم المعاصر، ولا أعرف أحدا له أدنى اهتمام بالسياسة يعتبر هذه العداوة تمثيلية!! إنما يُعذر القائل بهذا حين يكون داعية أو شيخا لا اهتمام له بمجال السياسة..

 

ولا تمنع هذه العداوة من تحالفهما في بعض الملفات، حيث تلتقي مصالحهما، كما كان في أفغانستان والعراق واليمن وسوريا.. إنها محاولة كل طرف استغلال عدوه في مصلحته، مثل النماذج التي بدأنا بها هذا المنشور.

 

ولكن ملفات أخرى تتجدد فيها العدواة والاختلاف، وما اغتيال سليماني وفخري زاده ببعيد!

 

على كل حال، ولكي لا يطول الأمر:

 

أما إخواني الذين ساءهم كلامي، لا سيما أحبابنا من أهل سوريا والعراق، فحقّهم على رأسي، أقبل أيديهم وأقدامهم حتى يرضوا، (ولقد راسلني كثيرون منهم يتفهمون قولي ويدعمون موقفي)، وما ذلك إلا لأني أحب أن أضع نفسي موضع الذلة من المؤمنين، وموضع الذلة من العاملين.. ولو أني أراني أخطأْتُ لسارعتُ بالاعتذار علم الله، ولكن: لعلي لم أوفق في التعبير باللفظ عن المعنى. فإن قولي عن إيران أنها «من القلاع» وأنها “حجر عثرة” يساوي قول القائل “مشاريع متنافسة = مصالح متضاربة = صراع على الهيمنة”، وليس فيه بأي شبهة معنى التلميع أو المدح لما فعلوه في العراق أو سوريا أو اليمن..

 

وكيف يمكن أن يُتَصَوَّر مني هذا، ولطالما كتبتُ عكسه.. بل كيف يُتَصَوَّر هذا وأنا في نفس المنشور أذكر «جرائم إيران» وأندد بالذين يوجهون سهامهم على ما بقي من المحرر من أرض الشام؟!

 

وأما أولئك القاعدين على مواقع التواصل، فإني أسامحهم جميعا، إلا أربعة أعرفهم بأعيانهم، فجروا في الخصومة فجورا لم أتخيله، إذ هم يعرفونني معرفة جيدة، وكان بإمكانهم أن يتصلوا فيستفسروا إن غمض عليهم ما هو واضح، أحدهم جعلني في خصومة مع أم المؤمنين عائشة!!!

 

ومع هؤلاء الأربعة، لا أسامح من اطلع الله على نفسه فعرف أن دافعه إلى كلامه فيّ لم يكن الغيرة على الدين ولا على الحق.. فأولئك لا أسامحهم، ولنا في يوم القيامة موعد لا يُخلف.

 

وأسأل الله تعالى أن يهدينا وإياكم سواء السبيل.