وأين حياتك الطيبة يا مسكين؟!

♦ الحياة الطيبة وعد من الله للطيبين المؤمنين العاملين، والمعيشة الضنك وعيد للغافلين السادرين، لكن الواقع الظاهر لا يؤشر إلى ظاهر الوعد ولا الوعيد، بل يكاد يكون الأمر معكوسًا للمدققين وغير المدققين، فترى المفترين المفسدين وذيولهم المناكيد يحيون على وسائد الراحة ويتقلبون على فرش من حرير، والعكس ستجده في حياة المصلحين والمتعلقين بهم؛ فما السر؟!

 

◘ مشهد: سجادة حمراء يتبختر عليها ناقصو العقل وحفنة من التائهين التافهين، تغمرهم التصفيقات والأضواء والأموال وبهجة الأنس والزينة.

 

◘ مشهد: سيدات عجائز وشابات يقفن متجمدات خائفات في عضة البرد والظلام ليشحذن دقائق يرين فيها أحبابهن، خلف قضبان المهانة والقتل البطيء، بل ويتعرضن لأبشع التحرشات من أسافل الخلق.

 

◘ مشهد: يتبختر أحد الساقطين «النمبر ون» باللامبورجيني والرولز رويس.

 

◘ مشهد: تعيش الشيخة تناظر حاملة كتاب الله ومجيزته ضريرة شبه قعيدة في دار آيلة للسقوط، منزوية على فراش عتيق تسترها ناموسية باهتة، لا يعرف الناس بها إلا حين رحيلها.

 

◘ مشهد: إحدى الممثلات تتفاخر بمواضع من جسدها، بل وتعظنا بأن كشفها من باب «وأما بنعمة ربك فحدث»، وعندما يذكّرها المذيع بالحجاب ترد مذعورة: «يا ساتر يا رب»!

 

◘ مشهد: أستاذ جامعي له شيبة وهيبة ومقام رفيع في العمل والدعوة، يحبسونه ويعذبونه ثم يخرجونه أمام الكاميرات في هيئة مكروبة معطوبة ويوقفونه أمام منكوس منجوس ليقاضيه، بتهمة «إنهم أناس يتطهرون».

 

◘ مشهد: بعد سنوات في السجن، يخرج هاني مهنا بوجه «يبُكّ» منه الدم من الصحة والشحم، يقهقه بانتشاء ويحكي سعيدًا عن أيام الزنزانة التي كانت أشبه بسياحة في بلاد الشاي، ولا يفوته التنويه على مدى نبل أولاد الرئيس وشهامتهم.

 

◘ مشهد: يتزوج أحد الواعظين القدامى وهو يداعب السبعين، ليخبرنا أن حياته تسير هانئة هادئة.

 

◘ مشهد: يسقط عصام العريان مغدورًا بسبب مجهول في زنزانة مظلمة، بعد عقود في خدمة الناس والدين.

 

♦ الأمر بالفعل مربك محير لمن يفكر بعيدًا عن سطحيات المواعظ، الأمر فعلًا فتنة وحجر ثقيلة على الصدر لمن توقف أمام المعادلة وقلّبها، لكن أظن أن له وجوهًا أخرى يجب على العامل أن يدقق فيها ويعيد حسابه معها، حتى إذا وقف أمام نفسه لا يخادعها بالهروب، بل يواجهها ويفحم شيطانها الذي يرقص على أكتافه، يسأله: وأين حياتك الطيبة يا مسكين!

 

♦ ستجد غالب تأويلات المفسرين لـ”الحياة الطيبة” بأنها: (السعادة، القناعة، الرضا، الاستغناء، المعرفة بالله، الرزق الحلال، التوفيق للطاعات، وقال آخرون باختصار: هي الجنة)، والغريب أن أحدًا منهم لم يذكر ما يتبادر إلى الذهن لأول قراءة، بمعنى أنها رغد الدنيا، وأظن أن ذلك راجع لمعاينتهم العميقة لأحوال العاملين السابقين، فالصورة المتخيلة عن الحياة الطيبة محض وهم، قلما تتحقق في دنيانا بظاهرها.

 

* السؤال: أين إذن الحياة الطيبة التي وعد الله بها عباده المؤمنين العاملين؟!

 

– يقول الشيخ: الأمر نسبي يا بني، فعدد الذين اصطفاهم الله بسهم الابتلاء والوجع قليل للغاية مقارنة بعموم العاملين، وما يجعل الصورة بهذا السواد في عينيك أنك تركز فقط على أهل الاختبار.

 

* سأوافقك في جزء صغير، لكن ألا ترى أن عالم الساقطين أيضًا، قليل منهم فقط من تدركه المعيشة الضنك، في حين أن غالب جمهورهم مدلل سعيد، أين الفارق إذن؟

 

– الفارق هناك في أعمق الأعماق، في شيء خفي بعالم الروح، الفارق في نعمة القناعة، والرضا، والبركة، والاستغناء، والتأهب للجنة، والشعور بالفردانية في مواجهة إبليس، ورعشة في البدن من ذكر الله، ودمعة في السحر، ودعوة تشعرك أنك تلمس حرف السماء، واطمئنان راجِ لعفو الله وشفاعة الحبيب.. هذه أشياء لا تلمسها لكنها في داخلك.. ثم دعني أسألك..

 

* أسمعك يا شيخ..

 

– هل يقبل أحد العاملين المبتلين أن يبادل موقعه مع منعّم ملطوط بإفساد؟!

 

* أظن لا..

 

– إذن أجبت..

 

– لكن، ألا يصلح إلا أن أبادلهم.. أليس هناك مكان ثالث، أكون فيه عاملًا ومنعمًا؟

 

– قال: إن كنت تقصد بالنعيم هنا حياة هادئة ساكنة آمنة، فالإجابة «لا» يا ولدي، لأن الحياة دومًا ستخايرك بين الموقعين، وستختار، وأنت اخترت بالفعل، أنت تفضل مكانك مقارنة بأماكنهم، أنت تفضل عرقك وسعيك مقارنة بغناهم الميسور، أنت تفضل خفوتك مقارنة بنجوميتهم الذائعة، أنت تفضل روحك مقارنة بخرائبهم، أن تفضل دارك مقارنة بعروشهم الظالمة، هذا ما يدركه باطنك! إن العامل لله وظيفته أن يناوش الحياة ويصارع إبليس ووارثيه وحاملي رايته، أن ينقذ نفسه والمستنجدين بمروءته، وراحته في أن يقنع بأن المعركة ستظل منصوبة وفي الوقت نفسه يوقن أنها منتهية لا محالة، ولا مانع في مشواره الصعب أن يحاول تهوينه وتليينه قدر المستطاع، أن يصنع الأفراح صناعة، أن يتسامى ويعلو وينتشي بتوفيق الله، أن يخادع الأبالسة ويناورهم، حتى يزوره الضيف الأخير ويذهب معه.

 

* أقر لك..

 

– إذن انحل بعض الإشكال..