كُنتُ مسئول العلاقات الخارجية في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في العاصمة التركية «أنقره» (UNHCR) في نهاية الثمانينات من القرن الماضي، وحصلتُ على هذه الوظيفة بعد اجتيازي لامتحان اللغات الإنكليزية والتركية والعربية والكوردية بالإضافة إلى امتحانين آخرين بخصوص اللاجئين والعلاقات الدولية . وخلال فترة سنوات عملي أنيطت لي عدة مهام منها إجراء اللقاءات مع سفارات الدول التي كانت تقبل اللاجئين والمقابلات بين مكتب المفوضية والمسئولين الأتراك وزيارة مخيمات اللاجئين مع الوفود القادمة من هيئة الأمم المتحدة بالإضافة إلى المقابلات مع اللاجئين.

 

تبدأ القصة في ربيع عام 1988م عندما خرجتُ مع هيئة الأمم المتحدة لتفقد أحوال اللاجئين في ثلاث محافظات تركية (سيواس Sivas، أماسيا Amasya وطوقات Tokat)، وكانت مدينة «طوقات Tokat» المحطة الأخيرة للزيارة حیث قابلتُ المسئولين فيها ثم أكملنا مقابلة اللاجئين.

 

وفي طريق خروجنا من المبنى اقترب مني أحد المسئولين وطلب مني زيارة مخيم اللاجئين الخاصة بأتراك أفغانستان من الأصول الأوزبكية الذين استقدمهم رئيس الجمهورية التركية المرحوم (كنعان أفرن Kenan Evren) عام 1982م عندما احتلت روسيا أفغانستان، وأسكنهم في عدد من المحافظات التركية ومنحهم الجنسية التركية، وقد تم إسكان 200 عائلة منهم في ناحية (يشيل يورت Yeşil Yurt) التابعة لمحافظة (طوقات)؛ وكان المرحوم «كنعان أفرن» قد تولى رئاسة الجمهورية بين الأعوام 1980 – 1989م.

 

لم أستطع رفض طلب المسئول التركي عندما وصف لي العائلة التي فقدت جميع أفرادها ولم يبق منهم غير رجُل مُسن فقد بصره نتيجة القصف الروسي مع حفيدين صغيرين له فقدا أبويهما في القصف، فتوجهنا بصحبة المسئول التركي الى ناحية (يشيل يورت Yeşil Yurt) لزيارته.

 

وقد انبهرتُ عند مشاهدتي منظر القرية وناسها الطيبين وكأنها قرية تركية من قرى آسيا الوسطى، واستقبلنا مجموعة من شيوخ القرية ورحبوا بنا أحسن ترحيب، ودخلنا معهم إلى المضيف وكأنني داخل إلى خيمة «أوغوز خان» حيث فُرِشتْ الأرض بجلود الأغنام والأبقار وتزينت جدرانه بالسجاد التركي الذي يحمل الطراز الأوزبكي.

 

وجلستُ معهم في حلقة دائرية كبيرة تضم عددًا من كبار السن بلحاهم البيضاء «آق صقالليللار» وكأنه مجلس الشورى في مدينة «أوتوكن  Otüken»، وبعد إتمام مراسيم الاستقبال دخل المجلس الرجل المُسن مع حفيديه، فقمتُ بواجبي كمسئول في الأمم المتحدة، ومدينة «اوتوكن» هي من المدن التركية القديمة كانت عاصمة لإمبراطورية «گوك تورك» تقع حالياً في هضاب منغوليا.

 

وفي أثناء الحديث في المضيف لفت نظري سجاد مفروش على الأرض بزخرفة أوزبكية رائعة، ولكن الشيء المُلفت للنظر هو وجود نقطة وردية لا يتناسب مع لون السجاد الأصلي، وبقيتُ ساكتاً ولم أسأل عن هذا السبب وفكرتُ في نفسي لعله خطأ بسيط في الحياكة، ولم أعرف أن الشخص الجالس إلى جانبي كان يراقب نظراتي، وفجأة سألني السؤال الذي كان يدور في مخيلتي وابتسم لي وقال: «أعرف ما يدور في خاطرك، فإن هذه النقطة الوردية ليست خطأ في الحياكة بل هو لون نضعها دائما في السجاجيد التي نعملها، وهي نقطة أمل، وومضة وبريق ضوء، فكلما ننظر إلى تلك النقطة الوردية نتذكر أسرنا في أفغانستان ونتضرع إلى الله وندعوه أن يفك أسر شعبنا، كما أنَّ هذه النقطة الوردية هي بمثابة ضوء الأمل في سواد الكون يُرشدنا إلى ما نصبوا إليه، ويشجعنا دائما للعمل الدءوب».

 

ولربما سائل يسأل ما علاقة هذه القصة بالقضية التركمانية؟ ولماذا تربط مقالاتك دائماً بالقصص والعبر؟

 

إنَّ القضية التركمانية اليوم تشبه بحد ذاتها السجاد الأوزبكي بلونها الداكن بين الحمرة والسواد، فلا ضوء ولا أمل لها لأنها تم بيعها في سوق السياسة بثمن بخس دراهم معدودات ، وفضَّل البائعون مصالحهم الفردية على مصلحة الشعب.

 

وعند النظر إلى وضع التركمان اليوم في العراق نجد أنهم أصبحوا ضمن الأقليات فلا أحد يهتم بهم ولا أحد يسأل عنهم، فلو سألنا أنفسنا لماذا آلت القضية التركمانية إلى هذا المستوى من الدنو، وأعتقد أن الجواب هو بسبب ضعف الأداء السياسي وقلة الخبرة السياسية لدى الذين يلعبون اليوم بمقدرات الشعب التركماني . فلو قمنا بسرد الخسائر التي تعرض لها التركمان خلال العشر سنوات الأخيرة في المباراة السياسية بين كركوك وبغداد نجد أن التركمان لم يُدرجوا كقومية أساسية في الدستور العراقي إلى جانب العرب والأكراد وكذا الحال بالنسبة للغة التركمانية، ولم يحصلوا على أية وزارة فعالة.

 

أما في السفارات والقنصليات العراقية فلا يوجد سفير أو قنصل تركماني تم ترشيحه من قبل الأحزاب التركمانية عدا بعض أقرباء رؤساء المحسوبين على السياسة التركمانية.

 

أما الوضع في كركوك والمديريات العامة وقوات الشرطة والأمن والجيش فقد خسر التركمان في هذه المباراة أيضا حيث تم تجريد حق التركمان من مديرية تربية كركوك نتيجة بعض الاتفاقات الشخصية، وكذا الحال بالنسبة لمنصب المحافظ ومعاون المحافظ وفي شركة نفط الشمال وباقي المديريات الأخرى، هذا في كركوك أما في المحافظات الأخرى التي يعيش فيها التركمان فلا صوت ولا حقوق لهم.

 

إذن من يتحمل مسؤولية هذه الخسارة؟ وهل هناك حلول لإنقاذ القضية؟ وهل هناك أمل وردي كما هو موجود في السجاد الأوزبكي؟ والجواب نعم ، فهناك حلول كثيرة سأوردها في الكتابات القادمة إن شاء الله، ورغم أن التركمان خسروا المعركة خلال هذا العقد من الزمن ألا أنهم لم يخسروا الحرب بعد، وأنني أرى أن  اللون الوردي المشع في السجاد الأوزبكي سيعكس ضوئه على القضية التركمانية، ولا يتم هذا إلا بعد إجراء التغييرات الجذرية في المؤسسات السياسية التركمانية، وإزاحة الذين باعوا القضية التركمانية وتبديلهم بأشخاص أكفاء لهم باع طويل في السياسة.

 

وينتظر التركمان هذه التغيرات بفارغ الصبر.

من د. معراج أحمد الندوي

أستاذ مساعد بقسم اللغة العربية وآدابها جامعة عالية، كولكاتا الهندية