كتب- أبوبكر أبوالمجد

من حين لآخر يبدو تأرجح الشعب الإسباني في الاختيار بين النظامين الجمهوري والملكي، ويعود هذا التأرجح لأسباب تاريخية عرفت فيها إسبانيا نظاما جمهوريًا أطاح به الدكتاتور فرانكو مما أدخل البلاد في أتون حرب أهلية طاحنة.

وثمة سبب آخر يتعلق بترتيب العلاقة مع بعض المناطق خاصة منطقتي كاتالونيا والباسك، المتطلعتان للاستقلال عن النظام الملكي.

حزب يونيداس بوديموس

قال أمس السبت، نائب رئيس وزراء إسبانيا المنتمي لليسار المتطرف، بابلو إغلاسياس زعيم حزب يونيداس بوديموس الشريك الأصغر في الحكومة الائتلافية بإسبانيا، إن الملكية لم تعد مناسبة لجيل الشباب.

وأضاف، إغلاسياس، في اجتماع حزبي: “يتضاءل عدد الناس، لا سيما الشباب، الذين يرون أنه لا يمكن للمواطنين في القرن الحادي والعشرين اختيار رئيس دولتهم وأنه لا يتعين عليه المثول أمام العدالة مثل أي مواطن ولا يمكن عزلة من منصبه إذا ارتكب جريمة”.

مشيرًا إلى أن الفضيحة المالية التي هزت العائلة المالكة تمثل “لحظة تاريخية” للضغط من أجل التحول إلى النظام الجمهوري.
الجمهورية الأولى

لم تدم الجمهورية الأولى لأسبانيا أكثر من عام بسبب ضغط القوى المحافظة والمرتبطة بالنظام الملكي.

فهذا النظام لا زال يحتل موقعًا مهمًا في الواقع السياسي والاجتماعي لشرائح مهمة من الشعب الإسباني التي لم تستطع القوى الثورية والجمهورية إقناعها بعرضها السياسي.

فالملكية لا تزال هي القيمة السياسية المثلى القادرة على تجميع شتات الشعب الإسباني المتعدد القوميات والأعراق، خصوصًا و أن قوى اليسار في هذه المرحلة لم تستطع التوافق على مشروع موحد وأجندة سياسية واضحة.

ينص دستور 1869 في مادته 37 على أن نظام الحكم في الدولة ملكيًا وأن شخص الملك ينبغي تعيينه من طرف البرلمان.

وحيث أنه كان كرسي الملك شاغرا، أسند البرلمان الوصاية على العرش إلى الجنرال الشهير “سيرانو” الذي عين بدوره الجنرال “بريم” رئيسًا لحكومته، والذي كان من أشد المدافعين عن الملكية؛ لكن في حلة ديموقراطية.

في جو سياسي تعالت فيه الأصوات المطالبة بالجمهورية وبالخيار الفيديرالي لحسم مشكلة التعدد الإثني و القومي في إسبانيا.

سارت حالة الاستقطاب هذه، وعدم الاستقرار، ودفعت جزءًا عريضًا من الجمهوريين إلى التنازل للملكيين لاستقدام ملك سليل عائلة ملكية لسد الفراغ الدستوري، حيث كان البلد بدون ملك منذ انطلاق حالة الاستقطاب هذه.

وبالفعل دخل الملك الجديد “أماديو سابويا” الإبن الذكر الثاني لفيكتور مانويل الثاني الإيطالي إلى مدريد ليؤدي القسم أمام “بريم” رئيس الحكومة ثم أمام مجلس النواب.

كانت فكرة استقدام ملك من إيطاليا، أي ملكًا أجنبيًا مبررًا كافيًا لرفضه كملك من طرف رجال الدين، والنبلاء وعلية القوم من الأرستوقراطيين، الأمر الذي عزز النزوع نحو الجمهورية داخل إسبانيا.

الحكومة المستشعرة للخطر الذي يهدد الملك ومعه التيار الملكي والمحافظ، أصدرت مرسومًا ملكيًا في 24 يناير 1874 يفرض الوقار والولاء للملك من طرف كبار الضباط ورجال الدولة.
لكن هذا المرسوم زاد الطين بلة، حيث ارتفع منسوب رفض بل ازدراء الملكية.

الملك الإيطالي أماديو أدرك صعوبة الموقف رغم دعمه من طرف الحزب الملكي الراديكالي بزعامة بريم و الحزب التقدمي.

وفي7 فبراير 1873 تعرض الملك لمحاولة اغتيال دفعته مباشرة لتقديم استقالته.

عادت فكرة الجمهورية من جديد لكن هذه المرة مصطدمة بعقبة دستورية، حيث الدستور لا يسمح بإمكانية الانتقال من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري.

فالاقتراح الذي يناقش داخل غرفتي البرلمان يتداول في مسألة غير قانونية وإقرار الجمهورية يؤسس لشيء ضد الدستور.
حينها أعلن “روفيرو” رئيس مجلس النواب وقتها عن تقديم استقالته احتجاجًا على هذا الأمر.

وأعلنت الجمهورية داخل البرلمان بموافقة 258 صوتًا ضد 32 صوتًا في غياب رئيس مجلس النواب والحكومة المستقيلة التي كانت قد تسلمت سلطاتها من الملك المستقيل “أماديو”.

بعد ذلك بدأت توجه انتقادات لاذعة إلى الملكية من طرف الطبقة السياسية بما فيها المساندة للنظام الملكي.

هذا النظام الذي انحاز للكنيسة ولرجال المال والأعمال على حساب شرائح واسعة من المجتمع الإسباني، كما عمل على تركيز السلطة السياسية والإدارية دون أن يأخذ بعين الاعتبار تعدد القوميات في البلد.

وأعلن رئيس الجمهورية حينها في الجمعية الوطنية عن إرادة الثوار باستمرار العمل بأحكام الدستور ما عدا الشق المتعلق بشكل النظام أي بالملكية في انتظار وضع دستور فيدرالي يناقشه ويصادق عليه البرلمان التأسيسي.

لكن القوى المحافظة من الملكيين أقبروا حلم اليسار الإسباني والذي كان في الحقيقة حلم الشعب الإسباني عبر القيام بانقلاب سنة 3 يناير 1874 من طرف الجنرال “بافيا” و تم حل البرلمان، وعادت الأمور بالتالي إلى المربع الأول، حيث “لم تجد الجمهورية الأولى تربة خصبة تزرع فيها قوانينها ومؤسساتها”.

الجمهورية الثانية

استأنف الجمهوريون والتقدميون معركتهم ضد النظام الملكي والملكيين. و يمكن توصيف هذه المرحلة بالموجة الجمهورية الثانية التي انطلقت مع دستور 1931.

حيث انصبت جهود الحركة اليسارية على الجبهة القانونية والفعل التشريعي داخل البرلمان من أجل إحداث قطيعة دستورية مع النظام الدكتاتوري الملكي المتسلط، مستلهمة مبادئها الكبرى من النظام الدستوري الإسباني لسنة 1812.

استثمر الثوار وجود الملك بديار المنفى محاولين تغيير شكل الدولة من خلال تحديث البناء المؤسساتي لها استنساخًا لقيم و مبادئ الثورة الفرنسية المؤسسة لنظام جمهوري مرتكز على مبدأ السيادة الشعبية، فصل السلطات، وعلمانية الدولة وإلغاء الامتيازات الاقتصادية والاجتماعية للكنيسة، مع تبني إعلان حقوق الإنسان لسنة 1789 الذي اعتمدته فرنسا رسميًا سنة 1791.

وهو الذي ينتصر لحقوق المواطنة، فصل السلطات و سيادة القانون مكرسًا مبدأ المساواة بين الجميع.

حقيقة كانت هذه المبادئ المشكلة لجوهر الفلسفة الإنسانية و التنويرية مبادئ جذابة للثوريين والجمهوريين الإسبان الذين يعتبرون أن معركتهم مع المحافظين لم تنته بعد.

لكن أمام تفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وعجز الحكومة عن إصلاح الأوضاع، تم الإعلان عن حل البرلمان والدعوة لانتخابات عامة، وسمح لأول مرة لانتخاب المرأة يوم 19 نوفمبر 1933.

شارك الشعب الإسباني بكثافة في هذه الانتخابات معلقًا آمالا كبيرة عليها أملًا في الخروج من الأزمة المعقدة.

لكن هذه الانتخابات عرفت فوز اليمين بـ227 نائبًا و 144 نائبًا عن حركة الوسط و 101 نائبًا عن الاتجاه اليساري.

كان اليمين في هذه المرحلة أكثر تنظيمًا وأكثر قدرة على إقناع الناخبين من اليسار.

أصبحت الجمهورية بيد اليمين، الأمر الذي دفع اليسار إلى التفكير في توحيد صفوفه و تجميع جهوده استعدادا للثورة على اليمين المحافظ المدعوم من طرف النبلاء والأرستوقراطيين ورجال الدين.

بعد فوز اليمين دخلت البلاد في دوامة من العنف والعنف المضاد، وانتشر السلاح في صفوف النقابات و الأحزاب.

احتل الثوار مراكز الحرس الوطني، ومقرات الأمن وسقط الجرحى والقتلى بالعشرات، واعتقلت الحكومة اليمينية آلاف الثوار المطالبين بالجمهورية.

كما تمت محاصرة المظاهرات المنتشرة في أجزاء كبيرة من التراب الإسباني، و تقدمت الأحداث سنة 1935 وسط مناخ من التوتر و انعدام الثقة بين كل الأطراف، توجت بسقوط الحكومة يوم تاسع ديسمبر من نفس السنة.

وأعاد رئيس الجمهورية الرئيس المستقيل لإدارة الحكومة مع إصدار قرار بإجراء انتخابات عامة يوم 16 فبراير 1936.
فاز اليسار في هذه الانتخابات متوجًا مسيرته النضالية من أجل الحرية والعدالة.

في هذه الفترة بالضبط حاول فرانكو التسلل في سرية للمغرب خوفًا على حياته من اليساريين.

لكن حزب الكتائب قام باغتيال أحد أفراد الحرس المدني، الشيء الذي أشعل فتيل الأزمة في ظرف سياسي دقيق.

فعمت الفوضى في الشارع الذي لم يكن في حاجة إلى المزيد لإشعال الفتنة نظرا لحساسية الظروف التي يمر بها البلد.

وعليه انقسمت البلد إلى اتجاهين؛ اتجاه مناصر للجمهوريين وآخر مناصر للنظام الملكي ذو مصالح طبقية ضيقة.

انتصر في النهاية الاتجاه الثاني بزعامة مجلس الدفاع الوطني مؤسسًا شرعيته على الانتصار العسكري ضد الحركات الجمهورية واليسارية.

قاد هذا المجلس الجنرال الحديدي الدكتاتور فرانكو، الذي ألغى شرعية الجمهورية بعدما صادق مجلسه على إعلان حالة الطوارئ.

وأصدر نفس المجلس مرسومًا في 29 سبتمبر 1936 عين به فرانكو رئيسًا لحكومة الدولة الاسبانية، هذا الأخير أصدر بدوره مجموعة من المراسيم أصبح بفضلها يتمتع بصلاحيات واسعة، كما راهن على التحالف مع الملكية من خلال إعلان خوان كارلوس ملكًا للبلاد.

في الثاني من يونيو2014، أعلن هذا الأخير تنحيه عن العرش بمحض إرادته بعد أن أطفأ شمعته السادسة و السبعين.

ولعب الملك خوان كارلوس، دورًا مهمًا في التحول الديمقراطي في إسبانيا المفضي إلى دستور 1978، مؤسسًا بذلك نظام الملكية البرلمانية على غير إرادة فرانكو الذي كان يميل إلى تأمين نظام عسكري دكتاتوري بغطاء ملكي.

والحق أن جزءًا من الطبقة السياسية كان على علم بما أقدم عليه الملك، حيث أنه خاض مشاورات ونقاشات عدة قبل ذلك.

ويمكن القول أن ما أقدم عليه الملك وضع مؤسسات الدولة في ورطة دستورية حقيقة، حيث أن الفقرة الخامسة من المادة 57 من الدستور الإسباني 4 تقول أن تخلي الملك عن الحكم يجب أن يكون بمقتضى قانون تنظيمي الأمر الذي دفع مجلس الوزراء برئاسة “ماريانو راخوي” إلى تمت الموافقة على القانون و أرسل على عجل إلى البرلمان بغرفتيه بنية المصادقة عليه حفاظًا على السير الطبيعي للمؤسسات في أجل إقصاه في 18 يونيو 2014.

وبالفعل تم ذلك وأُعلن ابن الملك فليب السادس ملكًا لإسبانيا يوم 19يونيو2014 من بناية القصر الملكي بمدريد أمام الآلاف من الأسبان. إذن مرت عملية نقل المُلك من الأب إلى الابن من حيث الشكل القانوني والدستوري بشكل سليم.

وهذا يرجع بالأساس إلى وجود الحزب الشعبي في الحكومة، وحيازته الأغلبية بالبرلمان.

فهو حزب يعتبر سليل الفرانكوية و مرتبط عضويًا بالملكية.

غير أن البعض يطرح السؤال هو ماذا لو وجد اليسار في الحكم بدل الحزب الشعبي في هذا السياق التاريخي الدقيق، حيث بدأ الجو السياسي العام ينفر من الملكية المثقلة لكاهل ميزانية الدولة؟
ما هو موقف الشارع الذي خرج في جزء مهم من تراب إسبانيا مطالبا بالاستفتاء حول المحافظة على النظام الملكي أو السير نحو الجمهورية الثالثة؟

ما هو موقف طلبة الجامعات الذين رفعوا لافتات على جدران الجامعة تطالب بحق الإسبان في تقرير مصير الملكية؟

إنها أسئلة مُزعجة للحزب الشعبي الحاكم لا يستطيع تقديم أجوبة ملموسة لها، سوى المقاربة الدستورية الشكلية؛ حيث بالفعل لا يمكن السير نحو الاستفتاء إلا عبر حل غرفتي البرلمان الاسباني مجلس النواب ومجلس الشيوخ.