لماذا كتب الله الموت على الإنسان؟ وما علاقة الموت بالحياة؟ وهل هو قسوة وعذاب أم مودة ورحمة؟

 

كل شيء في ما نراه من حولنا وما لا نراه يموت. الكائنات الحية من إنسان وحيوان ونبات وحشرات وفيروسات وجراثيم تموت. حتى الجماد الذي هو بالأساس عنصر لا حياة فيه فإنه يموت. النجوم تنفجر بعد أن تعيش ملايين السنين ثم تتلاشى وتختفي وكأنها تموت. الجبال الشم الرواسي تعتريها عوامل التعرية بسبب تغير المناخ والزلازل عبر ملايين السنين وتندثر وكأنها تموت. لا شيء يبقى عليه حاله؛ وكذلك الإنسان.

 

مهما عاش الإنسان فإنه يموت. تخبرنا التوراة أن عمر البشر قبل طوفان نوح كان في المتوسط يقارب الألف عام ثم تناقص إلى أقل من خمسمائة عام ولا يزال يتناقص حتى أصبح في المتوسط بين السبعين والثمانين والتسعين. فكل شيء يموت. كل من عليها فان. كل شيء هالك إلا وجهه. فلم هذا كله؟ لم كان تصميم الكون على هذه الشاكلة؟ ما الحكمة من الموت؟

 

ارتأت المشيئة الإلهية أن تمنح فرصة الحياة بالعدل بين الكائنات. إذا كانت الحياة من العدم عدل ومكرمة إلهية فكان لابد أن يأخذ كل كائن حي نصيبه منها. يخرج من عالم اللاوجود إلى هذا الوجود فيبصر النور، يرى الشمس والهواء والأشجار والبحار، يلمس تراب الأرض ويضرب بجناحيه في أجواز السماء. ينعم بنعمة الشعور بالقيمة والسعي نحو هدف وأداء رسالة. رسالة الاستعمار والاستخلاف في الأرض. شرف لنا أن نكون خلفاء الله في الأرض “إني جاعل في الأرض خليفة”. شعور جميل أن يكون للإنسان أبناء من نسله يحبهم ويحبونه، يتعب في تربيتهم فيردون الجميل بالحب والتوقير والدعاء. فالحياة من هذا المنظور نعمة. الوجود من العدم نعمة وفضل ومكرمة. ومن العدل والرحمة أن ينال كل واحد منها نصيبه. أنصبة يوزعها الله بين عباده بميزانه الإلهي الذي لا يحيد. بضعة سنوات زائدة أو ناقصة لا شيء في عمر الإنسان وفق التوقيت الرباني الذي يبدأ من الميلاد ولا ينتهي. الموت ليس نهاية الحياة. إنه مجرد انتقال في رحلة مبتدأها الميلاد ومنتهاها إما جنة أبدية وإما نار أبدية. الدنيا دار ممر نرتدي فيه أجسادنا المصنوعة من لحم وعظم ثم حينما نعبر هذا الممر نخلع هذا الرداء. لم يعد له دور ولا ووظيفة. أدى مهمته التي حددها الله له. لا رداء يبقى إلى الأبد. لا جسد خالد. ليست من وظيفته الخلود. لم يخلق لذلك. إنه ككل شيء هالك ولن يبقى أي شيء إلا وجه الحي القيوم.

 

حينما يهرأ الجسد ولا يعد يقوى على القيام بمهمته فهي الإشارة. الاستئذان في الرحيل. الإعلام بقرب استيفاء نصيبنا من الحياة الذي قدره الله.

 

من الطبيعي أن نشعر بالألم حينما يهن الجسد ويضعف. ثمة كائنات أخرى لا نراها بدأت تأخذ من خلاياه نصيبها في الحياة. الفيروسات والجراثيم التي قدَّرت المشيئة الربانية أن تعيش هي أيضا بدأت رحلتها وبدأنا نحن كما أخذنا نعطي. لقد أخذ جسدنا نصيبه من الحياة من حيوات الكائنات الأخرى. لقد اعتاش على قطف حياة الطيور والحيوانات والنباتات وجاء الوقت ليرد ما أخذ. جاء الوقت لتعتاش كائنات لا ترى على جسده فتأخذ حظها من دورة الحياة ويذهب هو حيث يأخذه الموت.

 

فهو العدل إذن.

 

لو لم يكن ثمة موت لهرم الناس جيلا بعد جيل. مليارات البشر من لدن آدم حتى قيام الساعة يملأون الأرض ويتكدسون في الهضاب والوديان. كتل من اللحم والعظم المهترئ الضعيف الخائر. وظائف الجسد لم تعد تعمل. لا يستطيعون التحكم في عضلاتهم. لا يقون على الأكل والهضم والإخراج. الأجساد متسخة بغبار الأرض وما يخرج من البطون. الروائح كريهة. يعيشون عالة على غيرهم فتهان كرامتهم وهم يتكففون الناس أعطوهم أو منعوهم. هنالك يتمنون الموت ليخلصهم من هذا الهوان. هنا الموت يبرز كأنه المنقذ والمخلص. هنا الموت يصبح رحمة. نعمة. مكرمة إلهية. تماما كما الحياة. هنالك يقول أقرب الناس إلى صاحب الجسد المهترئ الحمد لله الذي أراحه واجتباه.

 

الموت كما الحياة.. رحمة، مكرمة، عدل، حكمة ربانية، فتعالى الله الحَكَم العدل، الدائم الحي الذي لا يموت.

من د. حسين شحاتة

خبير استشاري في المعاملات المالية الشرعية