لا شك أن النصر يهواه كل إنسان ويتمناه والكثير يضحي ليناله، وعلى مدار التاريخ ظل بني آدم يقيم المعارك الحربية والسياسة ليثبت نفسه ويحافظ على قوميته أو دينه أو قبيلته، وللنصر وبهجته حالة نفسية فريدة في تصرف الإنسان، تتجلى على ذاته وحركاته؛ حيث تجعله يحس بالوجود وأنه ذا قيمة شريفة بين الأمم الأخرى..

 

والهزيمة لها تأثيرات سلبية نفسية وجسدية يشعر بها المنهزم ويتأثر بها، فاْلأمم المهزومة تعيش الذل وفقدان الذات؛ الشيء الذي يُنتج اليأس والقنوط والتسليم بالواقع أو التعايش معه في أقل الأحوال.

 

الهزيمة كلها شر إلا أنه يوجد في هذا الشر خير قَلَّ من يتفطن له، فلا يمكن مثلا أن تعرف مدى صلابة صفك وصدقه ما لم تتزلزل القلوب وتبلغ الحناجر، ولا يمكن أيضا أن تميز الخبيث من الطيب بتوالي النصر ودوامه.

 

فالمدسوس أو العدو الداخلي له استراتيجية طويلة الأمد في النقب من داخل البنيان ليوقعه من أساسه، وهذا الصنف لا يمكن أن تعرفه وأنت تعيش نشوة النصر وبهرجته، وهو لا يمكنه أيضا أن يُكشِّر عن أنيابه لأنه يعلم أنه هالك لا محالة إن كُشِف وفُضِح، وهذا الصنف أخطر من العدو الخارجي الظاهر، فعند الهزيمة يظهر هؤلاء ويعلو صوتهم ويكملون نفس مخططهم! ولكن بطريقة علنية كالعرقلة وبث الشكوك والإشاعات لتفريق الصفوف وتفتيت اللُّحمة المجتمعية.

 

الهزيمة خسارة ليست بالسهلة ولا يمكن للإنسان أن يتمناها أو يسعى لها ليميز صفه وُينقيه، لكن حين تقع يجب أن يُستَغل ذلك الظرف ويعاد ترتيب الصفوف واختيار الأشخاص المناسبين ليخوضوا غمار التحول والتحدي.

 

نحن عشنا قرن الهزيمة وعرفنا خلال مِحَنه وابتلاءاته الصادق من الكاذب، والصَّدِيق من العدو، وعرفنا كذلك من يصلح لإرجاع الأمجاد وإصلاح الواقع ومن لا يصلُح، سواءً أكانوا أفرادا أم جماعات أم حكومات، وبما أن المسلم لا يُلدغ من جحر مرتين؛ يجب على الشعوب المسلمة في أي حركة تحررية أن لا تتسامح مع كل من جاء مع المحتل أو جاء به أو طعن الأمة في ظهرها في قرن الضعف هذا.

 

بعد هذه الهزائم المتتالية التي مُنِيت بها الأمة عبر المائة سنة الماضية نحن مقبلون ــ إن شاء الله ــ على مراحل أخرى سينتصر فيها المسلمون ويعلو شأنهم من جديد، فإن لم نستفد مما مرَّ علينا من هزائم ونستخلص الدروس والعبر ونتلافى الأخطاء، فإننا لن نخرج من الشَّرَك المنصوب لنا، ولن نتجاوز الخطوط المرسومة سلفا إن لم نُمَيِّيز بين الخبيث والطيب.

 

قال الله تعالى:

{مَّا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَىٰ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىٰ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ}

من سري القدوة

رئيس تحرير جريدة الصباح الفلسطينية