بِدايةً، لعله من نافلة القول أن المقصود بالسؤال هو حُكْم مَنْعِ إقامة الصلاة بالكُلِّية، لا حُكْم شهود الجُمَع والجماعات للمريض، أو مَنْ يغلب على ظنه الإصابة بالوباء حال قيامه بالشعيرة لِكِبر سِنٍّ أو ضعف مَناعَةٍ ، فهؤلاء سَقط عنهم التكليف عند عامة العلماء في كل المذاهب، بل وقد يُمْنَع المريض بِداءٍ مُعْدٍ من شهود الجماعات -ولو قَسْراً- لِقوله صلى الله عليه وسلَّم “لا يورد ممرض على مصح” متفق عليه. قال ابن رجب” والممرض: صاحب الإبل المريضة والمصح: صاحب الإبل الصحيحة، والمراد النهي عن إيراد الإبل المريضة على الصحيحة”.

 

فإن كان هذا في الحيوان ففي الإنسان من باب أولى، ولما رواه الشريد بن سويد الثقفي رضي الله عنه قال: “كان في وفد ثقيف رجل مَجْذوم فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم إِنَّا قد بايَعناك فارجع”. أخرجه مسلم، وعلى مَنْ لم يشهد الجُمْعَة أن يصليها ظهراً أربع ركعات بلا خلاف بين الفقهاء .

 

وتبقى المسألة و هي هل يجوز تعطيل شعيرة الجُمْعة والجماعات بالكُلِّية في مَحِلٍّ من بلاد المسلمين نزل به الطاعون؟

 

بداية الأصل أن شعائر الله لا تُعَطَّل بالكلية بحال لأنها هي المقصود من خلق الله عز وجلّ للخلق بِرُمَّتِه، وسقوط التكليف يكون بالعجز وعدم القُدْرة، وهما وإن كانا يمكن تصورهما في الأفراد، فإنهما لا يمكن تصورهما في المجتمع كله اللهم إلاّ في غير بلاد المسلمين.. والتيسير (ورفع الحَرج) إن عاد على أصل العبادة بالبطلان يكون باطلاً ولا شك، لأن المقصود منه هو دوام الطاعة بشكل أخف لا إلغائها بالكلية ..

 

وعليه فقد يُتَصَوَّر والحال هكذا، أن يتسع الاجتهاد لتأخذ الجُمَع والجماعات ما يُشْبِه عند علمائِنا حُكْم “فرض الكفاية”، أي يسقط التكليف عن مجموع أهل البلد أو الحيّ بقيام الشعيرة في بعض المساجد بذلك (فتكون مسألة تنظيمية.. لا إلغائية للحكم بالكُلِّيَّة)، ويكون لولي الأمر أن يمنع المُسنين والأطفال مثلاً أو المرضى (حتى من غير مرض الوباء) من شهود الجماعات و الجُمَع ، أو أن يُلْزِم ولي الأمر المُصَلِّين بِلِبَاس الكَمَّامات (فالمحققين على أنَّ النَهي عن التَلَثٌّم في الصلاة كراهة تنزيه لا تحريم).. وقدْ يَتَّسِع باب الاجتهاد لِظهور المُصَلِّين متباعدين (غير متلاصقين في الصَفِّ)، كل هذا وأكثر منه يتسق مع مبدأ “فرض الكفاية” في حال النوازل ، وقد يقبله البعض من المُحًقِّقين في المسألة أو يتنازعونه، أمّا تعطيل الشعيرة بالكُلِّية وإغلاق المساجد بِدَعوى “حِفْظِ النَفْس” فهو “عَملٌ مُحْدَثٍ” غير مسبوق عند مَنْ سَبَقَنا رغم تعرضهم لنفس النَوَازل، وهو يُفْضي لتعطيل الشعائر الظاهرة، ومعلومٌ أنَّ حِفْظ الدين مُقَدَّم على حفظ النفس في ترتيب الضرورات.

 

فضلاً عن أنَّ تعطيل الجُمَع والجماعات ينطوي على صَرْفٍ لِلناس إلى الاعتقاد في الأسباب -بلسان الحال- من دون الله، دون الوقوف على أصل المسألة في مُعْتَقد المسلمين، وهو أنه “ما نَزَلَ بَلاءٌ إلاَّ بِذنْبٍ، وما رُفِعَ إلاَّ بِتَوْبَة”، قال تعالى {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. قال الطبري (بتصرف يسير): “فلو أن هذه الأمم التي نزل بها البأس تضرَّعَت واستكانت لربها، وخَضَعَت لطاعته، لَصَرَفَ عنها هذا البلاء”. أ هـ .

 

ولكنها بدلاً من ذلك ركنت إلى ما زيَّنَهُ لها الشيطان من التعلق بالأسباب المادية مِنْ دون رَبِّ الأسباب! وخِتاماً فإن الحرب لم تكن في شرعنا سبباَ مانِعاً من إقامة شعيرة صلاة الجماعة على مَظَنَّة الهلكة، ولكن شُرِعت “صلاة الخَوف”، إذ المَشَقَّة تُجْلِب “التيسير” لا “التعطيل” ..

 

وتبقى الحقيقة الوحيدة في هذا الشأن و هي أنَّ كَشْفِ الضُرّ حتى مع الأخذ بالأسباب لا يكون إلاَّ مِنْ عِندِ الله {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۚ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}. اللَّهُمّ فلا حَوْلَ لنا ولا قوة إلاَّ بك، نعُوذُ بِكَ مِنَ الْبَرَصِ، وَالْجُنُونِ، وَالْجُذَامِ، وَمِنْ سَيِّئِ الأَسْقَامِ ما عَلِمنا منها وما لم نعلم …

 

والله أعلى وأعلم، وصَلِّ اللهم وسَلَّم على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى آلِهِ وصَحْبِه أجمعين.

من نور الدين خبابه

ناشط سياسي وإعلامي جزائري