بينما يتابع العالم كله ما يجري في الشمال المحرر وعاصمته إدلب، كنت أقضي أياماً فيها أتعرف على ما يجري هناك بعيداً عن النمطية التي أرادها البعض لهذه المنطقة، فما أن تدلف إلى الشمال المحرر من معبر باب الهوى على الحدود التركية، حتى تجد الحركة الدؤوب لأناس غادين ورائحين، يعلو الجميع وهو يعبر البوابة علم الثورة الذي احتضن مئات الآلاف من الشهداء، وقاتل تحت رايته نفس العدد ربما ولا يزالون.

 

تسأل عن الوضع الميداني فيرد عليك البعض بأن تنسيقاً عسكرياً بين الجميع هو السائد، ففي ظل تمكن الفصائل الثورية الحاكمة في المنطقة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام التي فكّت ارتباطها مع تنظيم القاعدة، ونالها ما نالها من هجوم زعيم التنظيم أيمن الظواهري، فكان نتيجة الأمر أن انشق بعض عناصرها عنها فبايعوا الظواهري تحت اسم « حراس الدين»، لكن استمرت هيئة تحرير الشام تشكل تحالفاً مع فصائل الثورة بعد أن دخلت في حروب عبثية مع بعضها، مثل حركة الزنكي وأحرار الشام، لتتفق مع من تبقى من فصائل الثورة لاحقاً، وتحديداً أحرار الشام وصقور الشام وفيلق الشام وجيش الأحرار على تشكيل غرفة عمليات واحدة، لصدّ هجمات المحتل الروسي والإيراني والعصابة الحاكمة.

 

استطاع الشمال المحرر بإمكانيات محدودة كسر ظهر تنظيم الدولة الإسلامية، بحيث وصل عدد المعتقلين من أتباعه الذين سعوا إلى نشر الفوضى والعنف في الشمال المحرر إلى أكثر من 500 شخص بينهم قيادات داعشية، فضلاً عن قتل كثير منهم، وبالتالي استطاعت السلطة الحاكمة في الشمال المحرر فرض الأمن والاستقرار بحيث أمّنت حدود الناتو الممثلة بالأراضي التركية، وجنّبت العالم هجرة ملايين المقيمين في الشمال المحرر، ولعل هذا ما يفسر توقف الغرب بشكل عام والأميركيين بشكل خاص عن التذكير بوصف هيئة تحرير الشام بالإرهابية، وربما يشكل مقتل البغدادي في إدلب أخيراً نهاية للقصف الأميركي على المنطقة.

 

الواقع الأمني فرض نفسه، فطوال الأيام التي عشتها في إدلب والتي امتدت لثلاثة أسابيع تقريباً، لا تسمع أو ترى انفجاراً واحداً عليه بصمة النظام أو داعش، وهو ما يعكس نجاحاً أمنياً لافتاً في ضبط عدوين لدودين للشمال المحرر، يلخصها أحد المسؤولين، لقد تم ضمان جزء من عملية الحياة هنا تقريباً، وهي «فأطعمهم من جوع وآمنهم من خوف»، فالخوف من الفلتان الأمني انتهى، يبقى الواقع المعيشي وهو تحدٍّ كبير أمام دول، فضلاً عن كونه أمام كيان محارب من قوى كبرى وإقليمية ومحلية.

 

ثمة أربعة ملايين يعيشون في الشمال المحرر يشكلون قنبلة موقوتة بوجه المنطقة والعالم كله، وفي هذا العصر عصر السرعة والانتقال بالطائرات والهجرات، لا يمكن النأي عن مشاكل الآخر وتحديداً الجوار، فمقولة الأجداد: «إن كان جارك بخير فأنت بخير»، تنعكس أكثر ما تنعكس اليوم على الدول، فالدولة المجاورة المصابة بداء التطرف أو داء المرض أو غيره، سيكون ضررها أول ما يكون عليك كجارٍ لها.

 

استطاعت النخبة السورية التي آثرت البقاء في الشمال المحرر، وهي في الحقيقة نخبة سورية مصغرة، كون الشمال اليوم يضم كل من رفض أن يعيش تحت بوط روسيا وإيران والنظام الطائفي، استطاعت إنشاء صرح علمي حقيقي ممثلاً بجامعة إدلب، والتي تضم أكثر من 14 كلية من التخصصات كافة بما فيها كلية الطب البشري وطب الأسنان والهندسة بجميع فروعها، فضلاً عن الكليات الإنسانية، وتضم هذه الكليات أكثر من 17 ألف طالب وطالبة، وبجانبها جامعات خاصة نتيجة لعجز الجامعة عن استيعاب الجميع، وعلى الرغم من انسداد أفق الاعتراف بالجامعة فإن الطلبة لا يزالون يتدفقون إليها أملاً في اعتراف مقبل، مع توجه البعض من الطلبة أخيراً إلى مناطق درع الفرات، حيث الدعم التركي واعترافه ببعض الجامعات فيها.

 

حديث الشارع اليوم في الشمال المحرر وقف دعم التعليم من قبل الاتحاد الأوروبي، وهو ما عنى وقف أكثر من 23 مليون دولار عن المدارس في الشمال المحرر، والتي تضم أكثر من نصف مليون طالب وطالبة، وتفرز سنوياً للجامعات حوالي ثمانية آلاف طالب ثانوية، ومما يزيد الألم أن تعلم أن راتب الأستاذ عبارة عن مائة دولار فقط في الشهر يتقاضاها لفترة ثمانية أشهر فقط كعام دراسي، أما العطلة الصيفية فلا يتقاضى عنها شيئاً، مثل هذا التوقف قد يلقي بتداعيات خطيرة على الواقع السوري والواقع الدولي، فعلى صعيد الواقع السوري سينتشر الجهل والتعصب والتشدد والجريمة ونحوها، وهو ما سيتفشى في الجوار بالتأكيد، ليتحول إلى هجرة خارج الوطن، والمهاجر هنا سيكون عبئاً على الخارج أكثر من كونه عبئاً على وطنه، ولذلك فإن هذه المدارس تُعد اليوم مع المشافي الطبية المستهدفة بشكل شبه يومي من المحتل والعصابة الطائفية، مؤسسات لتثبيت الناس في أرضها فتمنعها من الهجرة إلى الخارج، مما سيجعل العالم كله يدفع ثمناً باهظاً لو حصل العكس، فما يُدفع للشخص في داخل سوريا من تعليم وصحة لا يكفي أضعافها بعشرات المرات إن استقبلته دول أخرى.

 

أما الحديث الثاني للناس فهو ارتفاع سعر المازوت في الشمال المحرر، بعد توقف تدفقه من المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية الكردية، حيث المازوت الصادر من هناك ليس بالمعايير العالمية، وإنما بالحرّاقات البدائية مما يجعلها أقل سعراً، ولكن مع عملية نبع السلام وقطع الطرق وسيطرة العصابة الحاكمة على بعض هذه الطرق تم وقف تدفق المازوت إلى الشمال المحرر، مما أدى إلى ارتفاع سعره، فانعكس سلباً على حياة الناس هناك، وهم الذين يستعدون لشتاء قارس، كلفة التدفئة فيه غالية جداً مقارنة بمداخيل غير موجودة أصلاً.

 

ليس أمام العالم سوى دعم ما تبقى من هذا الكيان الشمالي المحرر، تجنيباً لنفسه من تداعيات في غاية الخطورة، وليس أمام السوريين وغيرهم ممن دعموا الثورة السورية إلا دعم هذا الكيان بغضّ النظر عن ملاحظات هنا وملاحظات هناك، ما دام الملايين قد ارتضوا أن يعيشوا فيه، تثبيتاً لهم بأرضهم، كي لا يتحولوا إلى موريسكيين جدد، وهنود حمر آخرين، ويتحول الشمال المحرر -لا سمح الله- إلى حمص القصير والغوطة

من د. محمد السعيدي

أكاديمي وفقيه سعودي