تتصارع النخب على الأيديولوجيا، فيتدمر اقتصاد المجتمع وتنهار موارد البلد، فتنشأ شريحة واسعة من الفقراء القابلين لبيع ضمائرهم وعقائدهم وأخلاقهم مقابل ما يتعيشون به، فينسحب الصراع من المأدلجين إلى هذه الشريحة التي تستحيل مرتزقة يجندون أنفسهم لمن يدفع ولو بقليل من المال، وهنا لا يمكن التحكم بالصراع فكل شيء قابل للبيع الدين والعرض والضمير والمبادئ والوطن!

 

لا يمكن تجنيد الناس في أي صراع دموي وعنيف إلا في ظل حالة عامة من الجهل والفقر والاستقطابات. وهذا ما تعمل عليه أطراف عدة لا يمكنها نشر أفكارها وإقناع الناس بها إلا في جو من الجهل والفقر والتعصب، حيث تشغل النخب بصراعات أيديولوجية في حين تتبع سياسة التجهيل والتفقير وهكذا تضمن شريحة واسعة من المرتزقة الذين يبحثون عن العيش كأسمى هدف يحلمون به!

 

وهذا ما يعتمد عليه الملوك أيضا انطلاقا من مبدأ: جوع كلبك يتبعك! لذلك هم يعادون المصلحين الذين يسعون في تعليم الناس وتنمية مواردهم لأنهم بذلك يوفرون بيئة لنشوء الإنسان الواعي المستغني الحر المستقل.

 

الصراع من أجل التمكين على الواقع يختلف عن المناظرة والجدل في ميدان الفكرة. في ميدان التمكين أنت بحاجة للتراجع كما أنت بحاجة للتقدم وللإضمار كما أنت بحاجة للإظهار وإلى تجاوز بعض الأمور إلى حين التمكين لأن التعامل مع الواقع يقتضي التعاطي مع كل جوانبه، وكما أن المحاور يراعي جوانب المتحاور معه لكسب الحوار، فمراعاة جوانب الواقع بكل تنوعاته وتعدده وتبايناته أولى.

 

وكم هو مؤسف أن يبذل المصلحون جهدهم خارج الحلبة ليصلوا إليها منهكين وقد فقدوا جمهورهم.

 

لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعي أن المدينة ساحة اختلاف أيديولوجي متنوع أولى تحصين المجتمع المسلم بالعلم وبحل مشاكله الاقتصادية همه الأكبر. فعقد الإخاء الذي أجراه الرسول بين المهاجرين والأنصار وترسيخ مبدأ الزكاة والصدقة والإحسان والتكافل سد الطريق أمام تشكل شريحة فقيرة منهكة والمسجد النبوي الذي نشط بكلماته وخطبه وعظاته عالج جانب الجهل وهو يوعيهم بدينهم ويوعيهم بالتحديات الجديدة في مجتمع المدينة: أهل الكتاب والمنافقين.