أزعم أنه ليس هناك من نظرية سياسية قادرة على الصمود الأبدي أمام التحولات الاجتماعية والاقتصادية والتقنية والسياسية السريعة والمتسارعة، ولا بد لها من أن تتكيف تدريجيا وتقوم بمراجعات «قد تصل» إلى حد إبطال مفعولها في الركن الأساس منها، ولعل الفقرة الأولى في تقييم الحزب الشيوعي السوفييتي لسبب انهيار الاتحاد السوفييتي تأكيد على ذلك من خلال النص على أن «الاتحاد السوفييتي كان يتطور بإيقاع لا يجاري إيقاع تطور الحياة الدولية»، ورغم انهيار الاتحاد السوفييتي «عمود المنظومة الاشتراكية» وتخلي كل أوروبا الشرقية عن النظرية الماركسية، وقفز الصين إلى صدارة المنادين بالعولمة وباقتصاد سوق «اشتراكي»، رغم كل ذلك ما زال بعض دراويش الماركسيين العرب يصرون على أنه «لا يصلح آخره إلا بما صلح به أوله».

 

وبمقارنة الفروق الطبقية «جوهر الماركسية» في الدول الرأسمالية المعاصرة مع دول المتشبثين بالماركسية أو بعضها، نجد أنه في عام 2018، وطبقا لمؤشر جيني (Gini Index) كان المؤشر في الصين (46.5) بينما في ألمانيا (31.4) وكان في فييتنام (35.3) بينما في اليابان (32.1)، وفي فنزويلا (46.9) بينما في كوريا الجنوبية (31.6) «معلوم أنه كلما كان الرقم أقل يكون التوزيع أكثر عدالة»، أي أن الهدف المركزي للنظرية لم يتحقق عندها بل هي عند خصومها أفضل.

 

ربما تكمن عبقرية نيكولاي كوندراتيف في أنه أدرك ذلك قبل قرن، لكن غباء ستالين أعماه إلى حد إعدام الرجل الذي قال أن الاشتراكية تتكيف مع أزماتها في نهاية كل دورة بطريقة أسوأ من المرة السابقة خلافا للرأسمالية التي تتكيف مع أزماتها كل مرة بكيفية أفضل من المرة السابقة.. وهذا ما حدث.

 

وعندما كتبت مقالا في جريدة الشعب الجزائرية في أول أيام تولي غورباتشوف سلطته بعنوان «غورباتشوف يشبه فرانكشتاين» وقلت إن انهيار المنظومة الاشتراكية قد بدا وسيصنع غورباتشوف آلة ستأكله ونظامه على غرار فرانكشتاين؛ شن دراويش الماركسية عليّ هجوما حادا.. فرددت في نفس الصحيفة وفي نفس الفترة بأن الانهيار سيشمل كل المنظومة الاشتراكية وسيكون الانهيار في رومانيا الأكثر دموية.. ثم كتبت مقالا في صحيفة البديل «التي كانت تابعة للرئيس الراحل أحمد بن بيلا» أن يوغسلافيا ستتمزق كليا.. لكن الدراويش انغمسوا في التحايلات المعرفية التي أسهب ليون فيستنغر في شرحها في نظريته (Cognitive dissonance).. وعادوا للقول إن المشكلة في الاشتراكية هي في التطبيق لا في النظرية.. مع ضرورة الإقرار بأن الماركسية أجبرت الرأسمالية على تهذيب البعض من آثامها.

 

آثام الرأسمالية أكثر من أن تحصى، وقهرها للشعوب وزناها الخارجي لا يستره «بعض» طهرها الداخلي، فاستعمارها لأغلب مناطق العالم لا تشفع لها مظاهر ديمقراطيتها الداخلية «وهي ديمقراطية وظيفية ومن ضمن آليات التكيف التي أبى دراويش الماركسية قبولها»، لكن هذه الرأسمالية تتسع على حساب كل الأيديولوجيات والعقائد الأخرى، وهناك رهان من بعض المفكرين على «أنسنتها» كما هو التيار الفكري الآسيوي الجارف «من بيجييان وشينزو آبي»، وهناك من يراهن على تنويعها «دوغين» وهناك من يراهن على نهايتها لكنه لا يعرف شكل النهاية وما بديلها «واليرستاين»، وهناك من يراهن على تجددها «وليم هالال»، وهناك من يرى أننا في طريق المركب الهيجلي «بنية تقوم على رأسمالية جديدة واشتراكية جديدة» وهو ما يراهن عليه «جوزيف ستيجلتز» او بعض منظري الطريق الثالث «أنتوني جدنز»…الخ.

 

في تقديري «المتواضع والمتهيب» لا أحد يمتلك «القول الفصل ولا الكلمة الأخيرة»، فكل نظرية هي من شخص ما ولغرض ما «روبرت كوكس»، وكيف يكون في التاريخ حقيقة إذا كان للحقيقة تاريخ «فوكو».. فعلى دراويش الماركسية العرب أن لا يكابروا كما يكابر خصومهم أيضا.

من د. جمال ضو

بروفيسور جزائري، وباحث في الفيزياء النظرية