أزعم أن العراك الأمريكي الإيراني سيحدد الملامح الإستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط، وأن المدى الزمني لهذا العراك هو السنوات الخمس –تقريبا- والتي تشتمل على بقية فترة ترامب واحتمالات تنصيبه ثانية أو احتمالات فشله (في الانتخابات أو العزل أو الاغتيال).

 

وتقوم إستراتيجية ترامب مع إيران على ثلاثة ركائز هي:

 

1- الخنق الاقتصادي لإيران إلى أقصى حد متاح.

 

2- توظيف الحلفاء الإقليميين –لاسيما دول مجلس التعاون الخليجي- لسد بعض الثغرات في الجانب الأول من هذه الإستراتيجية الأمريكية.

 

3- عرض العضلات العسكري بالتهديد أحيانا أو إحضار قوات رمزية للمنطقة بشكل يثير القلق لإيران.

 

ولكن ماذا يريد ترامب من إيران في ظل إستراتيجيته تلك؟:

 

أ‌- حرمانها من فرصة التطور النووي وتطوير تكنولوجيا الصواريخ لضمان احتكار إسرائيل للقوة النووية في الشرق الأوسط.

 

ب‌- تجفيف موارد إيران للحيلولة دون دعم حلفائها بخاصة سوريا وحزب الله وأنصار الله والمقاومة الفلسطينية، وتقدر بعض الدراسات أن ذلك يكلف إيران قرابة مليار دولار سنويا، وسيؤدي النجاح في هذا الهدف- تجفيف موارد الدعم لحلفاء إيران- إلى تيسير التمدد الصهيوني وفتح المزيد من القنوات له بشكل يجعل المسرح أكثر تهيؤا “لصفقة القرن” أو ما يماثلها.

 

ت‌- إرباك المنظور الجيواستراتيجي لكل من روسيا والصين في منطقة غرب آسيا تحديدا من خلال شل قلب المنطقة وهي إيران.

 

المواجهة بين الطرفين الأمريكي والإيراني:

 

يمكن رصد جوانب المواجهة بتحديد جوانب الفشل والنجاح في تكتيكات كل من إيران وأمريكا على النحو التالي:

 

أولا: الإستراتيجية الأمريكية:

 

أ- فيما يتعلق بالخنق الاقتصادي هناك قدر من التأثير ” الثقيل ” للسياسة الأمريكية على الوضع الاقتصادي الإيراني، ويمكن توضيح هذا التأثير من خلال المقارنة بين الوضع الاقتصادي الإيراني حتى عام 2015( توقيع الاتفاق النووي ) ثم الفترة التي تلتها إلى مجيء ترامب وإعلانه الانسحاب من الاتفاق، فقد تراجع النمو الاقتصادي الإيراني في السنة المالية 2018-2019 بنسبة 4.9%، لكن هذا التراجع جاء بعد سنتين (2015-2017) من النمو، والملاحظ أن التراجع الإيراني تم بشكل متباين بين القطاعات الاقتصادية لكن القطاع النفطي كان هو الخاسر الأكبر، حيث وصل التراجع بعد الانسحاب الأمريكي مباشرة إلى 14% في النفط، و6.5% في الصناعة، و4.5% في قطاع الإنشاءات، و2.4% في القطاعات الأخرى غير النفطية، وكل ذلك انعكس على حجم التجارة الإيرانية لتتراجع بحوالي 10.7% مع نهاية شهر 8 من عام 2019.

 

ولكن إذا حسبنا أن قطاع الخدمات الذي يشكل 55% من إجمالي الناتج المحلي الإيراني لم يتأثر بإجراءات ترامب وأن الانخفاض في الناتج الزراعي الذي يمثل 10% من الناتج المحلي تراجع فقط 1.5%، فإن ذلك يعني أن النجاح مؤثر –بلا شك- ولكن ليس للحد الذي يجعل الاقتصاد الإيراني على حافة الانهيار.

 

غير أن التحليل الدقيق لانعكاسات سياسات ترامب على المواطن الإيراني تشير إلى تأثير واضح، فإجراءات ترامب أدت لفتح المجال للسلعة المحلية (بسبب تراجع الواردات)، وهو ما جعل السمة العامة للمنتجات في السوق هي أنها محلية الصنع من ناحية ولكنها من ناحية ثانية تُباع بأسعار عالية (أي سلع اقل جودة بتكلفة أعلى)، فانعكس ذلك على المواطن من خلال تراجع معدل الدخل الفردي في المدن بنسبة 6.7% و حوالي 9.1% في الريف الإيراني، وهي مستويات حادة يراهن المخطط الأمريكي على أنها ستقود لاضطرابات داخلية، فأسعار المواد الغذائية بخاصة اللحوم ارتفعت بمعدل 47% وهو ما دفع الدولة لمنع تصدير المواشي للخارج، وجعل 3% من الإيرانيين (حوالي 2.5 مليون نسمة) يعيشون على اقل من 2 دولار يوميا.

 

ب- التوقعات الاقتصادية من الجهات الدولية (مثل البنك والصندوق الدوليين وبعض الدراسات الأوروبية والروسية والصينية) تشير إلى أن الاقتصاد الإيراني يتجه نحو النمو بمعدل 1% بدءا من 2020 وسيستمر ذلك حتى عام 2024، ورغم أن ذلك لا يوحي بتحسن كبير بخاصة من زاوية تراجع معدل الدخل الفردي( نتيجة ارتفاع الأسعار والتضخم)، إلا انه كاف لإغواء القياد الإيرانية بالاستمرار في المقاومة خاصة أن معدل البطالة في النصف الثاني من عام 2019 وصل إلى حوالي 11% وهو المعدل الأدنى في السنوات من 2014-2019 ولعل ذلك راجع لدور قطاع الصناعة الوسيطة، وتفسير ذلك واهو أن تراجع قيمة العملة الإيرانية بحوالي 60% من قيمتها ليكون أجر العامل 5 دولار يوميا(وهو نصف ما يتقاضاه العامل الصيني على سبيل المثال) فتح المجال أمام الصناعة الإيرانية لإحلال الصناعة القائمة على العمالة المكثفة بدلا من التكنولوجيا المكثفة، وهو ما ساهم في امتصاص بعض البطالة وتخفيف بعض الاحتقان الاقتصادي.

 

ج- مشكلة إيران مع مستوى الالتزامات الدولية معها: فالي جانب الشكوى الإيرانية الدائمة من ” التثاؤب” الأوروبي تجاه المطالب الإيرانية بتفعيل نظام آلية الدفع الخاصة لتنفيذ العمليات المالية والتجارية مع الاتحاد الأوروبي، بعيدًا عن العقوبات الأمريكية، وقد بدأ هذا التفعيل في شهر 6 من هذا العام، لكن إيران دائمة الشكوى منه لأنه اقل مما تريد أو ما هو منصوص عليه.

 

من ناحية أخرى، فان إيران تواجه بعض التعقيدات في العلاقة مع زبائنها الكبار، ففي عام 2018 كانت إيران تنتج 3.8 مليون برميل تصدر منها 2.3 مليون برميل..وهناك ثماني دول هم الزبائن الأهم لإيران وهي الصين،والهند واليابان، وكوريا الجنوبية،وتايوان، وتركيا واليونان وايطاليا.

 

لكن متابعة مسار الصادرات النفطية الإيرانية يشير انه بدءا من مارس 2019 تراجعت الصادرات النفطية الإيرانية إلى 1.1 مليون برميل، (تايوان واليونان وايطاليا أوقفت الاستيراد النفطي من إيران)، بينما الصين والهند خفضت صادراتهما بمعدل 39% للصين و 47% للهند، وهو ما يعادل خسارة إيران حوالي 8 مليار دولار، واستمر التراجع ليتراوح بين 400 ألف و200 ألف برميل، وعند تصنيف التزام هذه الدول بعلاقاتها مع إيران يتبين أن الصين وتركيا هما الأكثر تمسكا بالنفط الإيراني إلى جانب أن هناك العديد من المراجع التي تشير إلى أن إيران تمارس مسالتين تخففان من ثقل الموضوع النفطي:

 

أ‌- تهريب النفط (أو ما يسمى الناقلات الشبح)، وتقدره بعض الجهات بحوالي 100-150 ألف برميل يوميا.

 

ب‌- تخزين النفط في أراضي الصين رغم أن أرقام الجمارك الصينية تشير لتراجع الواردات النفطية الصينية من إيران بحوالي 60% خلال الفترة من 2018-2019، كما تراجعت أرقام التجارة (ككل) بين البلدين خلال نفس الفترة بحوالي 46%.

 

ماذا يعني كل ذلك؟

 

من الواضح أن سياسة ترامب الاقتصادية بدأت تعض الاقتصاد الإيراني بشكل مؤلم، وهو ما دفع إيران لمواجهة هذه السياسة من خلال إستراتيجية العمل على توظيف المكانة الإقليمية لإيران لتوسيع هامش حركتها الدولية” كما سنوضح في النقطة الثانية.

 

ثانيا: الإستراتيجية الإيرانية:

 

يبدو أن جبهة ” الصد” لسياسات ترامب ما تزال قوية بخاصة في ظل وجود خامنئي متحكما بقدر كبير في صنع القرار الاستراتيجي مسنودا بالحرس الثوري، ويبدو أن المعادلة التي تحكم القرار الإيراني هي أن ترامب وصل إلى “نهاية ما يستطيع” ، وعليه فان المستقبل لا يحمل في طياته إلا إما استمرار الوضع الحالي” وهو وضع قابل للتحمل من قبل إيران رغم قسوته” أو تحسن نسبي وتدريجي في وضع إيران بخاصة أن ترامب على أعتاب انتخابات رئاسية قد يفوز بها (وهو ما يستدعي من إيران التفكير في سيناريوهات أسوأ “أو أن يفشل ترامب مما” قد” يفتح الباب أمام الخروج الإيراني من النفق، هذا إذا نجا ترامب من تبعات احتمالات المحاكمة أو العزل في ظل التطورات الأخيرة ومكالماته مع الرئيس الأوكراني.

 

في ظل ما سبق وضعت إيران إستراتيجية تقوم على التوجهات التالية:

 

أ‌- ضمان استقرار داخلي: تراجعت نسبة الاحتجاجات في إيران بحوالي 38%( طبقا لتقارير المعهد الدولي للدراسات الإيرانية)، وكانت ذروة هذه الاحتجاجات في مايو 2018، عندما بلع المعدل 69 احتجاجا أو مظاهرة يوميا، ومع أن الدوافع الاقتصادية للاحتجاج لم تتراجع ، لكن الاحتجاجات تراجعت لعدة أسباب:

 

1- الخطر الخارجي: أي أن الشعور العام لدى المجتمع الإيراني بالخطر الخارجي يساهم في امتصاص التوتر الداخلي إلى حين.

 

2- سياسة عرض العضلات في الخليج بهدف إيقاظ الحس القومي. (إسقاط الطائرة الأمريكية، حجز السفينة البريطانية،المناورات العسكرية المتلاحقة والعروض العسكرية.

 

3- كان لإعلانات ترامب انه لا يستهدف تغيير الحكومة الإيرانية بل يعمل على تغيير سياساتها أثرها المحبط لتطلعات بعض شرائح المعارضة الإيرانية التي كانت تأمل تدخلا أمريكيا لمساندة المعارضة على غرار ما جرى في العراق أو ليبيا أو سوريا.

4- ممارسة السلطات الإيرانية قدرا كافيا من القبضة الأمنية الداخلية.

 

5- تصعيد الخطاب الديني الداخلي بهدف تحويل الاهتمام من المعدة إلى الوجدان الوطني.

 

6- السياسة السكانية الناجحة في إيران، إذ أن سياسة ضبط الزيادة السكانية في إيران بين 1986 و2000 أدت لتراجع نسبة الخصوبة في المجتمع الإيراني بحوالي 64%، وهو ما جعل ضغط تراجع النمو الاقتصادي أقل عبئا.

 

ب- موقف القوى الأخرى غير الأمريكية من الأزمة الإيرانية: فالموقف الأوروبي لم يكن بالمستوى الذي تطمح له إيران، كما أن روسيا والسعودية عوضتا نقص الإمدادات الإيرانية للصين، الأولى زادت صادرتها بحوالي 45% والثانية بحوالي 84%.، مع ملاحظة أن بعض النقص في الواردات الصينية من النفط هو بسبب نقص الواردات من الولايات المتحدة في ظل الحرب التجارية بين البلدين، وهذا يعني أن تعويض الحلفاء النقص من البترول الإيراني يشكل إضعافا للقدرة التفاوضية الإيرانية مع خصومها.

 

الخلاصة:

 

1- إذا تمكنت الولايات المتحدة من إحكام الحصار على إيران بمزيد من التضييق إلى الدرجة التي تصل إلى قبول إيران ” تجرع السم” وقبول تغيير سياساتها ، فان المشهد العام في كل من إيران وسوريا واليمن بل والعراق وفلسطين سيصاب بتغير جذري، وهو أمر لا يجوز استبعاده، لكن معطيات هذا الوضع لا تزال في حدها الأدنى ولا تتجاوز 30 % .

 

2- إذا تمكنت إيران من تفكيك سلاسل القيود على الوضع الاقتصادي الإيراني بشكل تدريجي أو بفضل تغير في صانع القرار الأمريكي فان التغير سيصيب الخليج العربي وفي عمق العمق بل قد تصل شظاياه إلى مصر، وهو احتمال له فرص أكثر من السيناريو الأول ولو بقدر قليل.

 

3- نعتقد أن احتمالات التفاوض بين أمريكا وإيران خلال الفترة القادمة لا تزيد عن 25%، وقد تستمر جهود بعض الدول الأوروبية وربما غير الأوروبية في هذا المجال ، لكنا نعتقد أن إيران لن تغير مواقفها ، بل إن إستراتيجية ” اللسع العسكري والأمني ” للمصالح الأمريكية أو الحلفاء الإقليميين لأمريكا يوحي بأن إيران ستعمل على امتصاص كل الضغوط إلى حين ظهور مصير ترامب خلال الفترة من الآن وحتى نوفمبر 2020….

 

4- يبدو أن صناع القرار الإيرانيين واثقون من أن ترامب- ولأسباب بنيوية في الولايات المتحدة- لن يُقدم على أي عمل عسكري ذي شان استراتيجي، وهو ما يهز ثقة حلفاء الولايات المتحدة بها، ويوسع هامش المناورة لطهران، وهو ما يعزز نزوعها لعدم الانحناء لترامب.

 

5- تدرك إيران أن روسيا والصين لن يسمحا بتغير استراتيجي يفقدهما كل المكاسب المحققة بخاصة خلال السنوات العشر الأخيرة تقريبا.

من د. جمال ضو

بروفيسور جزائري، وباحث في الفيزياء النظرية