حين غزا السوفييت أفغانستان عام 1979، جددت باكستان استراتيجيتها هذه بإظهار عجزها عن السيطرة على المناطق القبلية، فنالت من إيجابيات ذلك وتفادت من سلبياته، فكان لها ما أرادت، إلى أن تدخّل الأميركيون في أفغانستان فتدفق الآلاف من المقاتلين الأجانب، عرباً وأفغاناً، وحتى باكستانيين ممن فروا من مناطق القتال ليلوذوا بالهرب والإقامة الآمنة في تلك المناطق التي تتشاطر مع الأفغان عرقية وعقيدة ومذهباً واحداً، فضلاً عن قانون اجتماعي واحد يُدعى «بشتون والي» يقدم الحماية والأمن لمن يفرّ إليه…

 

إذ لعب التصعيد العسكري وقعقعات السلاح المتصاعدة دوراً مهماً في تهميش دور رؤوس القبائل ورجالها الكبار، ما دام السلاح والعسكر هو الحاضر الأول والأخير، وبرز دور القادة العسكريين القبليين أمثال نيك محمد وبيت الله محسود وغيرهما. وبسبب افتقار المنطقة القبلية للخلفية الحزبية والتنظيمية الفصائلية، كونها مؤسسة بالأصل على تنظيمية قبائلية لقرون، فقد واجهت حركة «طالبان باكستان» -التي أرادت تأسيس نفسها في المنطقة على غرار «طالبان أفغانستان»- صعوبات جمة، وأدرك معها زعيم حركة طالبان أفغانستان الملا محمد عمر آنئذ بذكائه الفطري ذلك، فلم يعترف بحركة طالبان باكستان الوليدة، التي كانت طالبان أفغانستان سبقتها طويلاً بالعمل التنظيمي والخبراتي، فرفض الاعتراف بالحركة الوليدة، مؤْثِراً بقاء العلاقة مع باكستان حكومة وشعباً، ليبتعد أكثر عن دعم حركة وليدة سيدفع ثمناً باهظاً لدعمه لها، فرفض الاعتراف بها، ورفض أن تكون امتداداً له على الرغم من استفادته هو وحركته من وجودها على حدود بلاده..

 

طوّرت حركة طالبان باكستان نفسها، فدعمت المقاتلين الأجانب؛ لكن بعضهم كان وبالاً عليها، وتحديداً مقاتلي الأوزبك الذين سعوا إلى تعجيل المواجهة مع الجيش الباكستاني، وهو أول انقلاب على الاستراتيجية الطالبانية الأفغانية التي ترى في باكستان حليفاً مهما لحق بها من ظلم وتآمر ضدها، فقدر الجغرافيا يحكم الطرفين؛ ولكن ضعف خبرة طالبان باكستان وقادتها وتأثير بعض القادة الأجانب عليها، بالإضافة إلى أن تصفية مبكرة لقادة طالبان باكستان من أمثال نايك محمد وبيت الله محسود وآخرين سرّعت بهذه المواجهة لتبدأ المعركة بين الجيش الباكستاني وطالبان باكستان وتتطور إلى معركة مفتوحة نأت بنفسها عنها حركة «طالبان» أفغانستان، ومعها -إلى حدّ ما- تنظيم القاعدة باستثناء بيانات الظواهري في حينه، ودفعت طالبان باكستان ومعها مناطق القبائل وباكستان ثمناً باهظاً من أمنها واستقرارها، ولا تزال تدفعه وربما ستدفعه لعقود من إرهاب وقتل وتفجير وخراب بنية مجتمعية تمثلت في تهجير أكثر من مليون رجل قبلي في مناطق القبائل..

 

وحين ظهر تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في مناطق القبائل الباكستاني، تأكدت مخاوف طالبان أفغانستان، فكان أن انضم كثير من هذه المجموعات غير المتجانسة نتيجة وجود سبع مناطق قبلية في المنطقة، كل منطقة يحكمها نظام قد يختلف عن الآخر، وديناميكات عمل سياسي ومجتمعي مختلف عن الآخر، وبرز دور الاستخبارات الهندية والأميركية والأفغانية في استغلال هذه المجموعات وتوفير الأمن والحماية لها بالأراضي الأفغانية نكاية في باكستان وانتقاماً لها من دعم طالبان أفغانستان.

 

تلك مقدمة طويلة، ولكنها مهمة لفهم ما الذي أوصل حركة طالبان أفغانستان إلى هنا من الفهم السياسي الواقعي، بتعزيز العلاقة مع باكستان، وإقناع العالم بأنها حركة دولة تُعنى بالقضية الأفغانية، فرسخت بالتالي أن بلدها بلد محتل أجنبياً وأن قتالها شرعي، وابتعدت بالتالي شيئاً فشيئاً عن هيمنة فصائل متعددة الجنسيات والهويات والاستراتيجيات التي لا تمثل إلا دائرة صغيرة داخل دوائر إقليمية ودولية، وبالمقابل فرضت طالبان أفغانستان هويتها واستراتيجيتها الوحيدة، وكسبت شعبية ودعم باكستان على الرغم من كل سنوات الجمر التي مرّت بها إن كان بسبب الضغوط على باكستان الرهيبة من قبل المجتمع الدولي، أو ربما لأسباب أخرى تتعلق بمصالح باكستان، والتي قد تتناقض معها؛ ولكنها أدركت حجمها بأنها تنظيم لا يعادل الكثير في بعض المراحل مع حجم دولة كباكستان التي لها مصالح دولية وإقليمية، ولكنها ظلت أمينة للإرث الطالباني الأول بعدم التدخل بشؤون باكستان أو التعليق عليه مهما كانت الظروف.. ولذلك قصة أخرى محلها في الحلقة المقبلة بإذن الله…

من د. محمد السعيدي

أكاديمي وفقيه سعودي