ابتلينا في أنفسنا فصبر كثير من أهل الصبر فينا، لكن أظن أننا عندما اختُبرنا في غيرنا؛ حيث جرت معهم مشاهد مطابقة لما جرى لنا من قتل أو استبداد أو تجويع أو اعتقالات أو مصادرة للأفكار والأموال أو تشويه سمعة، ترددنا هل نشاركهم أم نكتفي بالاستنكار أم نحايد أم ننحاز للفاعل بهم؛ فصارت حالتنا الفكرية شبيهة بكل الطوائف التي عاديناها من قبل.

حيث قال كثير منا عندما صادف الظلم هواه أو على الأقل جاء من جهة لها عليه فضل وولاء: (يا سادة لا تكونوا مثاليين، هذا حال الدنيا!)، بل ربما سوّغ بعضهم الجريمة في حق المظلوم أو حايد أو تغاضى، بعدما كان يعتبر الفعل نفسه جريمة في حقه بالأمس، وليس هذا لسوء طوية ولا لتربية سوء بقدر ما هو خلل في المنهج وربما انفصام.

أعجبني الشيخ عصام تليمة عندما خالف موجة الانفصام التي تبعت الانقلاب الفاشل في تركيا، ورفض الشيخ فتوى المفتين بمنع دفن قتلى الانقلابيين في مقابر المسلمين، وقال إنهم مسلمون ويدفنون مع المسلمين، في حين صفق المتشنجون للتصرف الأحمق.

ولن يعجبك موقف الإمام رجاء بن حيوة بعد ذبح هشام بن عبد الملك للمعتزلييْن غيلان الدمشقي وصاحبه صالح؛ حيث أرسل رجاء يطمئن الخليفة أن ما فعله (حلال حلال حلال): (أقسم بالله لقتلهما أفضل من قتل ألفين من الترك والديلم).

ولن يعجبك صمت الإخوان على إعدام مجلس يوليو للشابين البريئين خميس والبقري، وعلى حل الأحزاب المصرية، وعلى المحاكمات الزائفة الجائرة لرموز مصرية، وذلك قبل انقلاب 54.

وستغضب عندما تقرأ ما فعله الفقيه ابن أبي ليلى مع الإمام أبي حنيفة لمجرد أنه خالفه وأثبت ضعف حجته في مسألة (المجنونة)، بل وشماتته في أبي حنيفة عندما جلده الوزير ابن هبيرة.

وسترتاب في تصرف كثير من الإسلاميين عندما اعتقل أردوغان آلاف المدنيين من جماعة (الخدمة) وأغلق مدارس (الخدمة) وشنع عليهم إعلامه بالحق والباطل، فصفق كثير من الإخوان ومعارضي السيسي، فقط لأن التصرف صادف هواهم، رغم مخالفته الواضحة لمبادئهم، بل كثير منهم لا يعرفون أصلًا من هي جماعة الخدمة ولا قرأوا لجولن، لكن قليل من العباد ينتبه للاختبار.

وستندهش وأنت ترى المعتزلة الذين نادوا بالحرية دهرًا ونظّروا لها وأبدعوا فيها، عندما دالت لهم الدولة وأطاحت السلطة في عهد المأمون بغرمائهم من السنة؛ فوقفوا يصفقون على أشلاء البويطي والخزاعي ويتشفون في أحمد بن حنبل.

ولعلك تذكر أن كثيرًا من الإسلاميين صفقوا لـ«عاصفة الحزم» رغم أن آثامها كانت واضحة من البداية، ورغم أن قادتها كانوا أنذال الخليج ولصوصهم، لكن ساسة نحبهم دعموها فدعمها الإسلاميون، والآن أطفال اليمن يلعنون كل من كان سببًا.

وكثير من أهل السنة في حياة ابن حنبل عندما رُدت لهم الكَرّة على خصومهم من المعتزلة في عهد الخليفة المتوكل لم يرقبوا في معتزلي إلا ولا ذمة، وقس على ذلك شافعية مع حنابلة، وحنفية مع شافعية، وأشعرية مع حنابلة وحنابلة مع أشعرية، والتاريخ مليء بمن سقطوا في أول اختبار بين الهوى والمبدأ.

وطبل الناس وهللوا لعبقرية أردوغان في إدارة ملف (خاشقجي) رغم أن تبريد القضية ومطها وعدم فضح بن سلمان في حينه كان كارثيًّا، وربما ضاع دم الرجل وضاعت الفرصة، وكان أردوغان في حاجة إلى ضغط دعائي من الرأي العام يجعله يجد مبررًا لخطوة قاسية، لكن كان الحاصل العكس.

وجاء اليوم من يقول لانتفاضة الشعب السوداني، التي هي انتفاضة مساكين جوعى مهضومي الحقوق: (يا زول ما أنتم فيه خير وأبقى؛ فسيدنا البشير الجاثم على أنفاسكم منذ 30 عامًا والمصادر لحرياتكم وآكل قوت أولادكم والشاهد على ضياع نصف بلدكم وحاضن بشار، يأوي المطاردين منا، وله معنا ذكريات حلوة؛ فلا بأس لو تحملتم قليلًا من أجل عيونه العسلية، خاصة أننا نرى قلة مندسة تقود مظاهراتكم، وأياد خفية تمولكم، فضلًا عن وجبات كنتاكي!!)، ومحتمل أن تكون الانتفاضة مدفوعة من مجاهيل مفسدين مستفيدين، وقد تكون لا.. لكن اليقين أن الشعب المظلوم يستحق دعمًا لصرخته وتحية لدمائه التي نزفت؛ لذا لا بد أن تندهش عندما تجد الفرد العادي العرب ابن الشارع والناس ارتدى قميص المستشار السياسي للسيد البشير، رغم أن موقعه الطبيعي هو الدعم غير المشروط للزول السوداني الغلبان الفقير، والدعم لكل زول في الدنيا.

فانتصر بداية لكل حر مظلوم ضد الظالم الغشوم ثم حلل بعد ذلك للمشهد بما يفتح الله به عليك لا بأس.