اعتادت الأسواق الشعبية في الجزائر على بث الوعي بشكل مجازي سرمدي بين الجزائريين، وبهذا الدور اكتسبت الكثير من الحلقات التي يجسدها أحد الحكماء على أرض الواقع مواقع الريادة لدى أفئدة الشعب الجزائري وكلٍّ من كان في زمن مضى يرتاد تلك الأسواق، والتي إن ما تعمقنا في ملاحظتها، سنجد بأنها كانت قِبلة للجميع مثلما هي مواقع التواصل الاجتماعي اليوم؛ بين زوايا تلك الأماكن نشأت الخرافة وامتزجت بمبادئ الديانات، ثم لبست ألبسة الوقائع، الأحلام والغايات، لتستقر على العبقرية اللفظية لكافة الألسن اللغوية، معطية جاذبية لا نظير لها، وهذه الخصائص جعلتها في صدارة الاهتمامات، ليس فقط لدى شريحة واحدة من فئات المجتمع فحسب، وإنما صار يرددها الكبير والصغير، الرجال والنساء، وعندما سقطت من عجلة التاريخ أو كادت تفعل، عادت لتستعيد دورها، وذلك بواسطة تجددها عبر ارتدائها لأقنعة التقاليد والأصالة، مدغدغة عواطف الهُوية والانتماء لدى الناس.

ليست الحكايات التاريخية وحدها الملهم اليقظ للجماهير، مثلما فعلت وتفعل أخبار الأقوام كما عبر عنها ابن خلدون، ولكن قصص الأبطال والمخلوقات الخارقة لا تزال حية، لا تزال تؤسس للعقل الجزائري بكافة نواحيه ونواهيه، إذ لا يخفى ذاك المَثَل الشعبي الذي يغازل الفؤاد الجزائري لدى ظروف خاصة، ليعبِّر عن مكنون لم يجد من العامية الجزائرية سوى تلك القصة الخارقة المنفصلة عن الواقع لتكون لسان حاله.

تبقى الحكاية التاريخية من أهم الكنوز الجزائرية المعاصرة، لأن عقول الدولة الوليدة، تلك التي خرجت إلى النور بعد مخاض عسير للغاية بغية فصل ما يربطها بفرنسا، لم تجد الوثائق اللازمة للاستناد عليها من أجل توثيق ماضيها، مما اضطرتها هذه الظروف القاهرة، إلى التمرد على مدرسة “الحوليات” الفرنسية، واللجوء إلى ما يعتمده ابن خلدون “مؤسس علم العمران”، وهو الانصات جيدا لما ترويه الألسن من وقائع تاريخية، والتأكيد على صحتها عبر المقارنة بين المباني والمعاني، بين مسرح الواقعة مع التطابق المنطقي المزدوج، وهكذا تمكن المؤرخون الجزائريون من تحويل القصص الشعبية إلى كتب تأريخ بعد مرورها وتمريرها على المخبر الأكاديمي المعرفي.

لا تجد على ألسنة الجزائريين الأسطورة التاريخية فقط، بل هناك أيضا أساطير من الطبيعة، عن قاهري الجبال أو من هزم الرياح… وغيرهم، وتجد أيضا الرمز حاضرا في هذه الحكايات، فنلمس الذئب على سبيل المثال لا الحصر رمزا للذكاء، الحمار رمزٌ للغباء والحرباء رمزٌ للنفاق… الخ، وهذه الرموز متغلغلة في الخطاب الشعبي الجزائري بشكل رهيب، فيكفي الاستماع إلى أحد الجزائريين حتى يمر على مسامعك ذكر احدى هذه الرموز بشكل أو بآخر؛ الأسباب كثيرة! تلك التي جعلت من الأسطورة جزء مهما من الشخصية الجزائرية المعاصرة، لعل أبرزها التنوع الهائل للثقافات ومشاربها على هذه الأرض، ومرور الكثير من الحضارات على متاربها، من الرومان إلى البربر، من بني عثمان إلى أبناء فرنسا، من ناشري الإسلام إلى معتنقي الحب والتسامح.

الأسطورة ليست خيالا محضا، بل هي جانب إنساني رائع للغاية، ومتميز إلى أبعد الحدود، وهذا بالذات ما دفع الجزائري أيا كانت منابته وتوجهاته، لسانه ومعتقداته، ليسلك طرقا عديدة من أجل التميّز في أيامه أو بين أقرانه، فترى كافة فئات هذا الشعب تعتبر ما تقوم به يقترب من القداسة (من مقدسات خلفياتها الأسطورية)، وما تحاول شرحه عميق التأثير (من عمق معاني مضامين الأساطير)، لتتكون في نهاية المطاف أفرادا تتجند وترتصف من أجل عيش المستحيل عند العجز عن بلوغه، ولو في أحلامهم.

الجزائري كائن أسطوري بامتياز، هذا ما يمكننا النظر إليه من خلاله، هو يقوم على استقاه من التلقين، تلقينٌ أجادت به أمه عليه، أو شيخه عليه، أو معلمه عليه، أو حتى أفلامه، موسيقاه وكتبه عليه، هو الكائن الخاضع المبدع في حدوده وبواسطة وسائله التي تخصه وحده.

من د. خالد عبد القادر

دكتور في الفقه المقارن‏ - لبنان‏