كلمة (الفتنة) تتضمن دلالات كأنها متناقضة. فأنت تكره الفتنة، ولكنك لا تكره من اسمها، فاتن أو فاتنة، أو حتى فتنة. فكيف التقى هذان المعنيان في كلمة واحدة؟
نبدأ مع أبيات من قصيدة للشاعر ابن القيسراني من العصر العباسي:
عن خاطري نبأ الخيالِ الخاطرِ
فاعْجبْ لزورة واصلٍ من هاجرِ
خافَ العيونَ فزار في جنَن الدّجا
أهلا وسهلا بالحبيبِ الزائرِ
إلى أن يقول فيها:
من كل فاتنة إذا ما أنشدت
ألقت على الأسماع مسحة ساحرِ
****


لا تتعجل فتعتبرها من الأضداد.
واتبعني إن شئت أن ترى حقيقتها اللغوية.
كلمة (فَتَنَ) جاءت من كلمة (فَتّ) بفك التضعيف إلى نون. ومن هذه فتّتَ. وتفتيت الشيء: تكسيره وسحقه. ولذلك يقال: فتات الموائد، أي: ما يتناثر من كسرات الخبز والطعام حول المائدة.
وحين تسحق شيئا فأنت تفتّته. ومنه: تفتيت الجهود، أي: بعثرتها. وكان العرب يقولون: فتّ فلان عزيمتي، أو: في عزيمتي، والأول أفصح، أي: أضعف إرادتي ورفض مساعدتي. وجاء من ذلك قولهم: فَتَّ فلان في عضُد صاحبه: إذا امتنع عن معونته أو أساء إليه، وكأنّه بعثر قوّة صاحبه. وحرف الجر (في) هنا أفصح لأن العضد مادي، والعزيمة معنوية.


ولنضرب مثالا على تفتيت العلاقات بين الناس في أيامنا هذه. فأنت ترى صديقين متحابين ثم يأتي ثالث، ينقل لأولهما كلاما عن الثاني، أو يختلق كلاما يدعي أن الأول قاله في حق صاحبه، ثم يذهب إلى الثاني يحرضه على الأول. فيخلق بينهما نزاعا وخلافا وانقطاع علاقة. بل يصل الحال إلى القتل بسبب هذه الفتنة بين الناس، على ما هو مشاهَد ومعروف في كثير من الأرجاء والأصقاع. فذلك الشخص الثالث فتّت العلاقات بين ضحاياه.


والفرق بين الفتنة والتفتيت، أنّ تفتيت الشيء قد لا يكون عن بغضاء وحقد، كما لو كنت (تفتّ) أي تسحق بأصابعك قطعة من الخبز اليابس. أما الفتنة فتضيف إلى هذا المعنَى حرارة الحقد والتّلهّبِ في المشاعر والأحاسيس.


تلك هي الفتنة بأجلى صورها، تَفَتّتُ إرادةِ المرءِ وانسياقُه تحت وطأة مشاعر تفتقد العقل والتّدبّر والاتّزان.
فالفتنة، بخلاصة العبارة: خروج المرء من حالته الطبيعية إلى سلوك انفعالي غريزي حادّ كما تراه لدى العاشقين تارة، ولدى الساعين للخراب والقتل من تجار الحروب والأوطان والأديان والأفكار، تارة أخرى.
وهي قد تنبعث ارتجالا في لحظة غضب أو بغضاء، وقد تكون مخطّطا لها، بحيث تؤدي إلى تحقيق أهداف المخططين المختبئين خلف شعارات تجد صدىً لدى فريق من الناس. ويتناسب ازدياد عدد هذا الفريق تناسبا طرديا مع تخلف المجتمع، فكلما كان المجتمع متخلفا وجاهلا جهلا مركّبا، كان أسرع للفتنة. ونجد مصداقَ هذه الرّؤية في جميع استعمالات التّنزيل العزيز لهذا اللفظ ومشتقّاته.


كما وظف القرآن الكريم الفتنة بالمعنى ذاته أبتلاءً واختبارا، كما في (أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ). فهي ابتلاء بشيء يُحَبّ أو يُكْرَه، بحيث تتفتت إرادتهم اتجاهه فتبتعد مواقف أغلبهم عن العقل والحكمة والصواب.
ولقد قلت قصيدة طويلة حين دخل عشاق الفتنة إلى العراق، ومنها:
أبَغدادُ يا رايةً تَخْـفُـقُ
يُغازِلُها النّخلُ والزّورقُ
ويا شمعةً من عُطورِ الهَوى
تُنيرُ الطّريقَ لِمَنْ أعْرَقُوا


ومنها:
وخاض الأراذلُ في فتنة
يُغنّي لها الأرْجَسُ الأحمقُ
فيا أيّها المُبْـتَغِي فِـتْنَةً
وأنت اللهيبُ لها المُحْرِقُ
سَيبنِي العراقَ ذَوو هِمّةٍ
كما قد بنَى الرّائدُ الأسبقُ
أليس كذلك؟
قولوا: إن شاء الله.

———————

د. هادي حسن حمودي