كثيرون في عصرنا لا يعرفون عن التابعي الجليل محمد بن سيرين، سوى أنه كان أشهر مُفسّر للرؤى والمنامات! ولئن كان توفيقه في تفسير الرؤيا مضرب الأمثال، كما ذكر الحافظ الذهبي: “كان له في ذلك تأييد إلهي” إلّا أنه كان أيضًا إمامًا غزير العلم، عظيم الشأن في علوم القرآن والحديث والفقه والسيرة.

وقد أدرك أكثر من ثلاثين صحابيًّا، وروى عن أبى هريرة، وعمران بن حصين، وابن عباس، وعدي بن حاتم، وابن عمر، وعبيدة السلماني، وشريح القاضي، وأنس بن مالك، وغيرهم.وروت عنه أعداد هائلة من التابعين وتابعى التابعين ومَن بعدهم.. وبلغ من الزهد والتقوى مبلغًا لا يكاد يطيق مثله أحد..ولم يقبل عطايا الحكام،حتى في أحلك الظروف.. وكان تاجرًا يكسب قوته من عمل يديه،حتى لا يسأل أحدًا من الخلق شيئًا.

وكان حريصًا على تجنّب الشبهات، فإذا ارتاب في شيء تركه، مهما أصابه من خسارة. وتسبّب هذا في دخوله السجن، عندما تخلّص من كمية كبيرة من الزيت، ورفض أن يبيعها للناس، لأنه شاهد فأرًا ميتًا في أحد الأوعية، فخشي أن تكون كل أوعية الزيت كذلك! وتسبّب هذا في عجزه عن دفع ما بقى من ثمن الزيت لبائع الجملة، فحبسوه، رغم توسلّات جماهير المسلمين.

وعرض عليه السجّان أن يتركه كل ليلة ليبيت في منزله، ثم يأتي إلى السجن صباحًا، فرفض، مُعتبرًا هذا من الخيانة لصاحب المال والحاكم معًا.. وظل في محبسه حتى قضى ولده الدين عنه.. قال عنه مورق العجلي: “ما رأيت أحدا أفقه في وَرَعِه -تقواه- ولا أورع في فقهه من محمد بن سيرين”.

وقال ابن عون: “ثلاثة لم تر عيناي مثلهم: ابن سيرين بالعراق، والقاسم بن محمد بالحجاز، ورجاء بن حيوة بالشام، كأنهم التقوا فتواصوا”. وقال خليف بن عقبة: “كان ابن سيرين نسيجًا وحده”.

وقال أبو عوانة: “رأيت محمد بن سيرين في السوق، فما رآه أحد إلا ذَكَرَ الله”. وشهد سفيان الثوري بأنه: “لم يكن كوفي ولا بصري له مثل وَرَع محمد بن سيرين”.

وكتب الإمام محمد بن جرير الطبري: “كان ابن سيرين فقيها، عالما، ورعا، أديبا، كثير الحديث، صدوقا، شهد له أهل العلم والفضل بذلك، وهو حُجّة”.

ووصفه الذهبي بـ: “الإمام، شيخ الإسلام، أبو بكر الأنصاري، الأنسي البصري” وقال عنه بكر بن عبد الله المزني: “من أراد أن ينظر إلى أورع من أدركنا، فلينظر إلى محمد بن سيرين”.

وقال يونس بن عبيد “لم يكن يعرض لمحمد بن سيرين أمران في ذمته إلا أخذ بأوثقهما” أي أنه كان يأخذ بالأحوط لدينه، وإن كان شاقًا على نفسه..

وكان له نصيب وافر من العبادة، ويُروى أنه كان يصوم يومًا ويفطر يومًا -وهو أفضل صيام النوافل- صوم سيدنا داود، على رسولنا وعليه الصلاة والسلام..

وكان له وِرْد من القرآن الكريم كل ليلة، فإن فاته منه شيء يقرأه بالنهار. وذهبت الصدقة والورع بأمواله.

وضمن ابنه -عبد الله بن سيرين- دينًا عليه، بلغ ثلاثين ألفًا، فدعا له -قبل موته- بالتيسير والوفاء والبركة.. ويُروى أن عبد الله قد أدى دين أبيه، وبلغت ثروته بعدها بسنوات معدودات عشرة أضعاف ما دفعه، ببركة البِرّ ودعاء الأب..

رضي الله عن الجميع.

من د. أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي، ومراقب لأحوال الأمة، وقضايا العالم الكبرى