لا أعتقد أنه يوجد عاقل واحد يصدق أن أنظمة الثورة المضادة وأنظمة “الممانعة” المزعومة يعادون تركيا لأجل ما يدعون الخوف عليها منها:

1. العروبة

2. الإسلام.
فلا أحد في العالم أضر بالعروبة والإسلام من هذه الانظمة والعملاء المستبدين بالعرب والإسلام ونخبهم من النوعين التأصيلي والتحديثي.

فالتاريخ الحديث كله يشهد أن ما يسمونه دولهم هي محميات “خلقها” الاستعمار ولم يكن لها وجود قبل الحرب العالمية الثانية وأن هذا الاستعمار هو الذي اختارهم خدما لمصالحه فيها بحيث إنهم مجرد “عسس” على مصالحه على حساب العروبة والإسلام وكل القيم الإنسانية بما يرتكبونه من جرائم إزاء شعوبهم.

وما بينهم من تغادر في تنافسهم لإرضاء سادتهم الذين يحمونهم ضد شعوبهم للإبقاء عليهم في كراسيهم هو المنطق الحاكم في كل تصرفاتهم التي لا علاقة لها بما يزعمونه من خوف على العرب من قومية الأتراك وعلى الإسلام من علمانية الأتراك. والتنافس بين القوميتين العربية والتركية إن وجد فمفيد للأمة.

وفائدته تكون عظمى لو كان سقفه الإسلام وحماية الامة وكان حكمه التسابق في الخيرات خاصة والعرب اليوم لم يبقوا عرب القرون الوسطى لأن عدتهم وثروتهم وكونهم قلب الإسلام يجعلهم في وضع لا يخاف معه العربي الصادق من أي قومية أخرى من المسلمين أو من غير المسلمين.

أما الكلام على العلمانية وبصورة أدق على ما يعتبرونه من مظاهرها الأدنى -الحريات الفردية في المأكل والمشرب والملبس والعلاقة بين الجنسين والسياحة-فهذه الأنظمة متفوقة فيها على تركيا والفرق الوحيد هو أن تركيا لا تخفيها وما يخفونه منها أبشع وأقذع ككل المحرمات رسميا والمستباحات سريا.

لكنهم كما هو معلوم هم حرب على كل فضائل العلمانية أعني حق الشعوب في التعبير عن إرادتها والمشاركة في إدارة شؤونها العامة فهم ألد أعدائها رغم أكاذيبهم في الخطاب الرسمي ليبيضوا صفحتهم في الغرب والغرب لا يعنيه ذلك لأن اختارهم ليس لتحقيق الحريات بل للقمع من أجل الدفاع عن مصالحه.

ما علة العداء إذا لم يكن كما يدعون من اجل العروبة والإسلام؟ هل هو عداء عبثي؟ لا أبدا ليس عبثيا. يكفي الوصل بينه وبين الموقف الاوروبي والأمريكي والإسرائيلي والإيراني من تعافي تركيا واستردادها المتدرج لهويتها الحضارية. فهذا هو الأساس البنيوي وصادف أساسا عرضيا هو الموقف من الربيع.

ورغم أن الموقف من الربيع العربي إذا فهم من المنظور التركي فهو عرضي لأنه ليس موقفا معاديا لهم بالقصد الاول بل هو مجرد تناسق تركي مع مسارها الذي هو العلة البنيوية للعداء المشترك بين أنظمة الثورة المضادة والاستعمار الغربي الذي يحميها ويخاف عليهم كعبيد له من التعافي التركي.

لكن هذا الخوف من العامل البنيوي يقويه الخوف من الربيع من منظور الانظمة والدليل هو أن أي تعاف عربي سواء كان ماديا (كما حدث مع العراق) أو روحيا كما يحدث مع الربيع يعاملونه معاملتهم لتركيا ومن ثم فعامل القومية التركية ليس هو المحدد بل عامل التعافي الذي يهدد دورهم الخادم للاستعمار.

فما يفعلونه الآن مع تركيا فعلوا مثله وأكثر مع أي نظام عربي يشعرون أنه بدأ يحقق شيئا قد يجعل شعوبهم تحتقرهم زيادة وتشرع في التوق إلى شيء من الحرية والكرامة وهو ما يجعل أي بلد عربي حتى لوكان صغيرا وليس غنيا مثل تونس لا يريدون له تعافيا روحيا يمكن الشعب من حقوقه وكرامته وحريته.

مشكلهم الخوف من العدوى الصحية وليس من العدوى المرضية: هم كلهم مصابون بالجذام الذي يجمع كل علل الانحطاط السياسي والخلقي والإنساني ويعتبرون كل سمو نحو هذه القيم خطرا عليهم. وحتى يبرروا باطلهم يستعملون ثروات بلادهم في رشوة حماتهم وفي تخريب غيرهم ما أمكن لهم ذلك.

ما فعلوه في ثورة مصر وثورة سوريا وثورة اليمن وثورة ليبيا وما يحاولونه في ثورة تونس التي عجزوا دون إسقاطها على الأقل إلى حد الآن وما حاولوه ضد تركيا منذ أن بدأ الغرب يشوه صورة نظامها الذي مكنها من الخروج من التبعية لا يفيد أن علة حربهم على الخير في الاقليم هي العروبة أو الإسلام.

لكن ما يسعدني حقا أن شعوب هذه الانظمة لم تعد غافلة عما يحاك لها و”العدوى” حصلت واكتملت ولم يعد بوسع أي نظام ولو أنفق مال قارون أن يغير من الامر شيئا: كل شعوب الخليج تتوق إلى الحريات والحقوق والكرامة وإلى إدارة شأنها بنفسها وعدم القبول بدفع الجزية من أجل المراهقين.

هذا على المستوى القيمي. ولكن الاخطر هو الخوف مما يحدث على المستوى المادي. فإذا كان الربيع يخيفهم بالنقلة القيمية والسياسية والاجتماعية فإن تعافي تركيا ونهضتها المادية -فضلا عن المستوى الروحي المتمثل في الاستعادة المتدرجة للذات-هي التي ترعبهم وترعب أسيادهم في الغرب.

وبصورة أدق فما يرعبهم هو فشل علمنة تركيا المتدرج لأنه في علاقة عكسية مع استرداد تركيا لهويتها الحضارية الذي أثبت عكس كل ما يقال عن الهوية الحضارية: فالتعافي أثبت أن تركيا حققت في عقد ونصف من استرداد الهوية على مستوى البناء المادي لتركيا ما لم تحققه في 70 سنة من علمانية العسكر.

وهذا هو العامل البنيوي الذي يخيف استراتيجيي الغرب وتوابعهم من حكام انظمة الثورة المضادة المتخلفين. فالعدوى هنا أخطر من العدوى الآتية من الربيع العربي. ذلك أنها عكست كل الحجاج الذي يتشبث به أدعياء الحداثة من عملاء الغرب: التحديث المستقل شرطه التحرر من التبعية الحضارية.

ذلك هو المخيف في النموذج التركي رغم أن لي عليه الكثير من الملاحظات وخاصة مواصلته الرؤية الرأسمالية وإن طعمت ببعد اجتماعي كبير له علاقة بالرؤية القرآنية لأنه يجمع بين تكذيب لكل الحجاج الحداثوية الذي يشترط قلب صفحة الحضارة الإسلامية لبناء الدول المتطورة اقتصادا وعلميا وتقنيا.

لا يمكن لأي قوة أن تصمد أمام الدليل الفعلي على إمكانية الجمع بين المحافظة على الهوية الإسلامية وإن باسترجاع متدرج وحذر وتحقيق ما يشبه المعجزات في كل مجالات التحديث الامر الذي عجزت عنه دول عربية من المفروض أن تكون أغنى من تركيا بما لها من ثروات طبيعية.

والشعوب تعلمت ولم تعد غافلة لذلك فهي بمجرد هذه المقارنة تنتهي إلى أن العلة هي الفرق بين الانظمة صلاحا وطلاحا وطنية وخيانة حبا في شعبها وكرها لها استقلالا وتبعية والبقية المستنتجة بينة: كل الشعوب تصبح أميل إلى النموذج التركي والربيع العربي مهما فعلوا لمنعها من رؤية الحقيقة.

لذلك وختاما فأنظمة الثورة المضادة سدت أمامها كل الابواب وقد تفلس قريبا لأن من يحميها يحلبها إن لم تتداركها شعوبها لمنع النهاية الأليمة التي لسنا بحاجة لعلم لدني حتى نتوقعها فصناديقهم التي يزعمونها سيادة على أبواب الخلو مما ادخر فيها لترضية نزوات جماعة ترومب ولوبيات إسرائيل.

من د. أحمد الشربيني

باحث في علم الأتمولوجي، دكتوراة في علم اللغة والدراسات السامية والشرقية