دخل رجل كبير السن، ضعيف البنية، متواضع الثياب، على الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان في مجلسه بمكة -أثناء حجّه- فلما رآه عبد الملك، قام إليه، وسلم عليه، وأجلسه معه على السرير، وقعد بين يديه، وقال: “يا أبا محمد، ما حاجتك؟ فراح الرجل يأمر الخليفة وينهاه، وسط ذهول مَن لا يعرفه من الحاضرين.. وكان مما قال: “يا أمير المؤمنين، اتق الله في حرم الله، وحرم رسوله، فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار، فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور، فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين، فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك، فلا تغفل عنهم، ولا تغلق دونهم بابك”.

فقال له الخليفة: أفعل إن شاء الله.. ثم نهض الرجل من مجلسه، فأمسك به عبد الملك وقال: يا أبا محمد، إنما سألتنا حوائج غيرك، وقد قضيناها، فما حاجتك؟ فأجاب الرجل: “ما لي إلى مخلوق حاجة” وخرج، فهتف الخليفة: “هذا وأبيك الشرف.. هذا وأبيك السؤدد”.. أمّا الرجل فهو شيخ مكة وعالمها ومُفتيها، أحد كبار السادات من التابعين “عطاء بن أبى رباح” رضي الله عنه، الذي عاصر 200 من الصحابة، وروى الأحاديث الشريفة عن أكثرهم، ثم روت عنه جماهير التابعين وتابعي التابعين فمن بعدهم.

وقد كان الخليفة عبد الملك بن مروان من طلبة العلم في شبابه، وهو نفسه أحد تلاميذ عطاء، فلا عجب فى أن يهابه وأن يجلس منه مجلس السامع المُطيع، وألّا يضيق بوعظه و أمره و نهيه له فى مجلس خلافته.. وما ظنّك برجل قال عنه بحر العلم، عبد الله بن عباس، رضي الله عنهما: “يا أهل مكة! تجتمعون عليّ وعندكم عطاء”؟ أي أنه يكفيكم أن تسألوا عطاء، فهو يُغنيكم عنى..

ويُروى أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال أيضًا: “تجمعون لي المسائل وفيكم عطاء بن أبي رباح”؟! وقال أبو جعفر الباقر-أحد علماء آل البيت- لمن طلبوا منه الفتوى من أهل مكة: “عليكم بعطاء، هو -والله- خير لكم مني.. خذوا من عطاء ما استطعتم” وقال عنه أيضًا: “ما بقي على ظهر الأرض أحد أعلم بمناسك الحج من عطاء”.. ووضعه قتادة السدوسى مع ثلاثة آخرين من كبار التابعين، لا يُلتفت إلى من خالفهم في الفتوى، فقال: “إذا اجتمع أربعة،لم ألتفت إلى غيرهم، ولم أبال مَن خالفهم: الحسن-البصري-وسعيد ابن المسيب، وإبراهيم -النخعى- وعطاء بن أبى رباح، هؤلاء أئمة الأمصار”.

وكذلك أثنى عليه الإمام أبو حنيفة قائلًا: “ما رأيت فيمن لقيت أفضل من عطاء بن أبي رباح”.

وكتب عنه الإمام الذهبي: “الإمام شيخ الإسلام، مفتي الحرم” و”كان من أوعية العلم”.. وقال ابن جريج أحد تلاميذه: “لزمت عطاء ثماني عشرة سنة، وكان -بعدما كبر وضعف- يقوم إلى الصلاة، فيقرأ مائتي آية من البقرة، وهو قائم لا يزول منه شيء ولا يتحرك”..وكان من العلماء العاملين،الزاهدين في حطام الدنيا الفانية.. وشهد بذلك تلميذ آخر له، هو عمر بن ذر الذي قال: “ما رأيت مثل عطاء بن أبي رباح، وما رأيت عليه ثوبا يساوي خمسة دراهم”.. وما عند الله خير وأبقى.

رضي الله عنه وأرضاه.

من د. أكرم حجازي

كاتب وباحث أكاديمي، ومراقب لأحوال الأمة، وقضايا العالم الكبرى