معنى الغَيْرة:

كراهة الرجل اشتراك غيره فيما هو حقه. وقال الراغب الأصفهاني: (جعل اللَّه سبحانه هذه القوة في الإنسان سببًا لصيانة الماء وحفظًا للإنسان، ولذلك قيل: كلُّ أمة وضعت الغَيْرة في رجالها وضعت العفة في نسائها، وقد يستعمل ذلك في صيانة كل ما يلزم الإنسان صيانته. والغَيْرة ثوران الغضب حماية على أكرم الحرم، وأكثر ما تراعى في النساء). وقال ابن القيم: (إن أصل الدين الغَيْرة، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغَيْرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغَيْرة تميت القلب، فتموت له الجوارح؛ فلا يبقى عندها دفع البتة، ومثل الغَيْرة في القلب مثل القوة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوة وجد الداء المحل قابلًا، ولم يجد دافعًا، فتمكَّن، فكان الهلاك، ومثلها مثل صياصي الجاموس(أي قرون البقر) التي تدفع بها عن نفسه وولده، فإذا تكسرت طمع فيها عدوه).

الترغيب في الغيرة:

– عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى يغار، وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه). (معناه: أن الله يغار إذا انتهكت محارمه، وليس انتهاك المحارم هو غيرة الله؛ لأنَّ انتهاك المحارم فعل العبد، ووقوع ذلك من المؤمن أعظم من وقوعه من غيره. وغيرة الله تعالى من جنس صفاته التي يختص بها، فهي ليست مماثلة لغيرة المخلوق، بل هي صفة تليق بعظمته، مثل الغضب، والرضا، ونحو ذلك من خصائصه التي لا يشاركه الخلق فيها).

– وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن يغار، والله أشد غيرًا).

– وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من الغَيْرة ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يبغض الله عز وجل، ومن الخيلاء ما يحب الله عز وجل، ومنها ما يبغض الله عز وجل، فأما الغَيْرة التي يحب الله عز وجل فالغَيْرة في الريبة. وأما الغَيْرة التي يبغض الله عز وجل فالغَيْرة في غير ريبة، والاختيال الذي يحب الله عز وجل اختيال الرجل بنفسه عند القتال، وعند الصدقة. والاختيال الذي يبغض الله عزَّ وجلَّ الخيلاء في الباطل). قال الشوكاني: (فالغَيْرة في الريبة: نحو أن يغتار الرجل على محارمه إذا رأى منهم فعلًا محرمًا؛ فإن الغَيْرة في ذلك ونحوه مما يحبه الله… والغَيْرة في غير ريبة: نحو أن يغتار الرجل على أمه أن ينكحها زوجها، وكذلك سائر محارمه؛ فإن هذا مما يبغضه الله تعالى؛ لأنَّ ما أحلَّه الله تعالى فالواجب علينا الرضى به؛ فإن لم نرض به كان ذلك من إيثار حمية الجاهلية على ما شرعه الله لنا).

من صور الغيرة:

1- الغَيْرة لله سبحانه وتعالى: ومن صور هذه الغَيْرة:

أ- الغيرة لدين الله تعالى: فالمسلم يغار أن تؤتى المعاصي، أو أن تنتهك المحارم، ومن الغيرة لدين الله القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده؛ فإن لم يستطع فبلسانه؛ فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

ب- الفرح بزوال الظلم والظلمة: إن المسلم الغيور ليفرح إذا أزيل منكر، وقمعت فاحشة، وأخمدت فتنة، كيف لا، وربنا يقول: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون) النور: 19. (بل إن الفرح بما يصيب الناس من البلاء، وإن كان مذمومًا؛ فإنه حين يكون لإصابة مفسد، أو ظالم ببلاء يمنعه من فساده وظلمه، ويجعله لغيره من الظلمة عبرة، فلا يكون مذمومًا، بل غيرة في الدين، والغَيْرة من الإيمان، ففرحه حينئذ بزوال الفساد والظلم، لا بإصابة البلاء والمصيبة، كما ذكره بعض العلماء). وكيف لا يفرح المسلم إذا رأى الظلمة والمستبدين يزولون ويتساقطون كأوراق الخريف!!.

2- الغيرة للرسول صلى الله عليه وسلم: يجب على كلِّ مسلم أن يغار لرسوله الكريم إذا أُسيء إليه، فيدافع عنه، ويذبُّ عن عرضه، وينصره بما يستطيع.

3- غيرة الرجل على أهله: قال النووي: (والرجل غيور على أهله أي: يمنعهم من التعلق بأجنبي بنظر، أو حديث، أو غيره). وقال ابن القيم: (وأما الغَيْرة على المحبوب فهي: أنفة المحب وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره).

أقسام الناس في الغَيْرة على محارم الله: عدَّ ابن تيمية أقسام الناس في الغَيْرة على محارم الله بعد أن بيَّن الغَيْرة التي يحبها الله، والغَيْرة التي يبغضها الله فقال:

وهنا انقسم بنو آدم أربعة أقسام:-

1- قوم لا يغارون على حرمات الله بحال، ولا على حرمها مثل: الديُّوث والقوَّاد وغير ذلك، ومثل أهل الإباحة الذين لا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحقِّ، ومنهم من يجعل ذلك سلوكًا وطريقًا (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ) [الأعراف: 28].

2- وقوم يغارون على ما حرَّمه الله، وعلى ما أمر به مما هو من نوع الحبِّ والكره، يجعلون ذلك غيرة، فيكره أحدهم من غيره أمورًا يحبها الله ورسوله، ومنهم من جعل ذلك طريقًا ودينًا، ويجعلون الحسد والصدَّ عن سبيل الله، وبغض ما أحبه الله ورسوله غَيرة.

3- وقوم يغارون على ما أمر الله به دون ما حرمه، فنراهم في الفواحش لا يبغضونها ولا يكرهونها، بل يبغضون الصلوات والعبادات، كما قال تعالى فيهم: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) مريم: 59.

4- قوم يغارون مما يكرهه الله، ويحبون ما يحبه الله، هؤلاء هم أهل الإيمان.

فوائد الغَيْرة:

1- الغَيْرة دليل على قوة الإيمان بالله.

2- خصلة يحبها الله سبحانه وتعالى.

3- هي السياج المعنوي لحماية الحجاب، ودفع التبرج والسفور والاختلاط.

4- الغَيْرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السوء والفواحش، وعدم الغَيْرة تميت القلب، فتموت له الجوارح؛ فلا يبقى عندها دفع البتة.

5- هي من الأسباب الدافعة لإنكار المنكر.

6- تطهر المجتمع من الرذائل.

7- الغَيْرة سبب لصون الأعراض.

أسباب ضعف الغَيْرة:

لضعف الغيرة أسباب عديدة، نقتصر على ذكر بعضها فيما يلي:-

1- ضعف الإيمان: يشير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن الغيرة لا تكون إلا من مؤمن بقوله: (إن الله يغار وإن المؤمن يغار)(. فحياة القلب بالإيمان تجعل الإنسان غيورًا، وبقدر إيمانه تكون غيرته، وإذا ضعف الإيمان ضعفت الغيرة.

2- كثرة الذنوب: قال ابن القيم: (ومن عقوبات الذنوب: أنها تطفئ من القلب نار الغَيْرة، التي هي لحياته وصلاحه كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن؛ فالغَيْرة حرارته وناره التي تُخرج ما فيه من الخبث، والصفات المذمومة).

3- الجهل: فمن أسباب ضعف الغيرة الجهل بأهمية الغيرة، وخطورة غيابها، فضدُّ الغيرة الدياثة، وضد الغيور الديوث، كذلك الجهل بعظم المسؤولية تجاه الأهل؛ فالرجل محاسب ومسؤول يوم القيامة عن رعيته ومن تحت رعايته.

4- التقليد للكفار والمفسدين: الغيرة من الأخلاق الفاضلة التي يراد لها أن تقلع من بلاد المسلمين، بفعل دعاة تقليد الغرب الذين انعدمت لديهم الغيرة؛ لذا يريدون إماتة خلق الغَيْرة في نفوس المسلمين، وقد حذَّر الإسلام من تقليد الكفار والتشبه بهم، قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).

5- وسائل الإعلام الفاسدة: إن لوسائل الإعلام دورًا كبيرًا في إفساد الناس: كالإذاعة، والتلفاز، والصحف، والشبكة العنكبوتية، وغيرها، فالكثير من هذه الوسائل مليء بالأغاني الفاحشة، والصور الخليعة، والمسلسلات الماجنة التي اعتاد الناس مشاهدتها، وغرس قيم وأخلاق لا تمت للإسلام ولا للمسلمين بصلة، فأخذ خلق الغَيْرة يضعف شيئًا فشيئًا.

6- انتشار المنكرات: إنَّ انتشار المنكرات في المجتمعات الإسلامية بلا نكير ولا تغيير يجعلها مألوفة لدى الناس، فتضعف الغيرة في القلوب، يقول ابن القيم في أثر المعاصي في الإنسان: و(كلما اشتدت ملابسته للذنوب أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جدا حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره).

الوسائل المعينة على اكتساب الغَيْرة:

يمكن أن تنمَّى الغَيْرة بأمور كثيرة ومنها:-

1- تربية الأولاد على الغَيْرة، وغرس هذا الخلق في نفوسهم.

2- الابتعاد عن أسباب ضعف الغيرة، كالقنوات الفضائية الماجنة، والمجلات الهابطة، وغيرها من وسائل الهدم.

3- الرجوع إلى قيم الدين وغرسها في نفوس الناس.

4- التأكيد على دور الرجل.

5- توعية المجتمع توعية شاملة بجميع وسائل الإعلام، والخطب والمحاضرات.

6- تعظيم قدر الأعراض، وبيان خطورة ضياعها.

نماذج من غيرة الأنبياء عليهم السلام

1- غيرة النبي صلى الله عليه وسلم: غيرته على حرمات الله: النبي صلى الله عليه وسلم أعظم الناس غيرة لله، فكان يغضب إذا انتهكت حرمات الله، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء يؤتى إليه، حتى ينتهك من حرمات الله، فينتقم لله) والنماذج والصور على غيرته على محارم الله كثيرة جدًّا. منها:

– غيرته على نسائه: كان أعدل البشر غيرة على نسائه، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي رجل قاعد، فاشتدَّ ذلك عليه، ورأيت الغضب في وجهه، قالت: فقلت: يا رسول الله، إنَّه أخي من الرضاعة، قالت: فقال: انظرن إخوتكن من الرضاعة، فإنما الرضاعة من المجاعة).

– وعن أم سلمة رضي الله عنها: (أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها، وفي البيت مخنث، فقال المخنث لأخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية: إن فتح الله لكم الطائف غدًا، أدلك على بنت غيلان، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يدخلنَّ هذا عليكنَّ).

2- غيرة داود عليه السلام: عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كان داود النبي فيه غيرة شديدة، وكان إذا خرج أغلقت الأبواب؛ فلم يدخل على أهله أحد حتى يرجع. قال: فخرج ذات يوم وغلقت الدار، فأقبلت امرأته تطلع إلى الدار؛ فإذا رجل قائم وسط الدار، فقالت لمن في البيت: من أين دخل هذا الرجل الدار والدار مغلقة؟ والله لتفتضحن بداود. فجاء داود فإذا الرجل قائم وسط الدار، فقال له داود: من أنت؟ قال: أنا الذي لا أهاب الملوك، ولا يمتنع مني شيء، فقال داود: أنت والله ملك الموت فمرحبًا بأمر الله، فرمل داود مكانه؛ حيث قبضت روحه، حتى فرغ من شأنه، وطلعت عليه الشمس، فقال سليمان للطير: أظلي على داود، فأظلَّت عليه الطير حتى أظلمت عليهما الأرض، فقال لها سليمان: اقبضي جناحًا جناحًا، قال أبو هريرة: يرينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف فعلت الطير، وقبض رسول الله صلى الله عليه و سلم، وغلبت عليه يومئذ الُمضرحية) والمضرحية هي النسور الحمر.

3- غيرة موسى عليه السلام: قال الله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى) طه: 9-10. قال ابن عباس وغيره: (هذا حين قضى الأجل وسار بأهله، وهو مقبل من مديَن يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكان موسى عليه السلام رجلًا غيورًا: يصحب الناس بالليل، ويفارقهم بالنهار غيرةً منه، لئلاَّ يرَوا امرأته، فأخطأ الرفقة لما سبق في علم الله تعالى، وكانت ليلة مظلمة).