شرع الله لنا الاعتكاف في رمضان متمماً لفوائده ومقاصده.. متداركاً لما فات الصائم من جمعية القلب.. وهدوء النفس.. واجتماع الهم.. والانقطاع إلى الله تعالى بالقلب والقالب. وحقيقته الفرار إلى الله.. والانطراح على عتبة عبوديته.. والارتماء في أحضان رحمته.

ولنقرأ ما فتح الله به على طبيب القلوب ابن القيم – رحمه الله – حيث يقول وما أحسن ما قال: “لما كان صلاح القلب واستقامته على طريق سيره إلى الله تعالى متوقفاً على جمعيته على الله تعالى.. وكان فضول الطعام والشراب وفضول المخالطة.. وفضول الكلام.. وفضول المنام مما يزيده شعثاً، ويشتته في كل وادٍ، ويقطعه عن سيره إلى الله تعالى، أو يضعفه أو يعوّقه ويوقفه.. اقتضت رحمة العزيز الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب.. وشرع لهم الاعتكاف الذي مقصوده وروحه عكوف القلب على الله تعالى.. فيصير أنسه بالله بدلاً عن أنسه بالخلق.. فيُعِدُّه بذلك لأنسه به يوم الوحشة في القبور.. حين لا أنيس له ولا ما يفرح به سواه. فهذا مقصود الاعتكاف الأعظم.

ولما كان هذا المقصود إنما يتم مع الصوم، شرع لهم الاعتكاف في أفضل أيام الصوم، وهو العشر الأخير من رمضان” (زاد المعاد،ص:168) وهو كما عبر عنه ابن رجب -رحمه الله- بـ: “الخلوة المشروعة لهذه الأمة وهي الاعتكاف خصوصاً في شهر رمضان،.. خصوصاً في العشر الأواخر منه.. كما كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يفعله. فالمعتكف قد حبس نفسه على طاعة الله وذكره.. وقطع عن نفسه كل شاغل يشغله.. وعكف بقلبه وقالبه على ربه وما يقربه منه.. فما بقي له همٌ سوى الله وما يرضيه عنه.

فمعنى الاعتكاف وحقيقته.. قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق” ويقول الدهلوي رحمه الله: “ولما كان الاعتكاف في المسجد سبباً لجمع الخاطر، وصفاء القلب، والتفرغ للطاعة، والتشبه بالملائكة، والتعرض لوجدان ليلة القدر.. اختاره النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر.. وسنه للمحسنين من أمته”،(حجة الله البالغة،ج:2،ص:42).

لذلك داوم عليه صلى الله عليه وسلم.. وحافظ عليه المسلمون في كل عصر ومصر.. وأصبح من السنن المأثورة ومن شعائر رمضان. فعن أم المؤمنين عائشة: “أن النبي كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى.. ثم اعتكف أزواجه من بعده” متفق عليه. وعن أبي هريرة: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام.. فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوما” رواه البخاري.

العزلة المشروعة: ويوصينا ابن الجوزي -رحمه الله- بالعزلة فيقول: “فيا للعزلة ما ألذها!.. فلو لم يكن في العزلة إلا التفكير في زاد الرحيل.. والسلامة من شر المخالطة كفى” ويقول: “ولأن أنفع نفسي وحدي خير لي من أنفع غيري وأتضرر.. الصبر الصبر على ما توجبه العزلة.. فإنه إن انفردْتَ بمولاك فتح لك باب معرفته” ولأن الأيام تمر سريعا وأحداث الحياة متلاحقة.. فلابد للإنسان من وقفة مع نفسه.. يحاسبها.. يصحح مسارها.. يشحن الإيمان فيها.. كل ذلك لا يتأتى إلا بالاعتكاف.

وقد عشنا هذه المعاني داخل السجون.. فتحول الحبس -بفضل الله- إلى خلوة.. رأينا فيه معاني جديدة.. وعشنا فيها أحاسيس ما كنا لنتذوقها لولا الخلوة. ولو سألت الإخوة الذين مروا بتجربة المعتقل.. ستجد معانياً إيمانية جديدة.. وفهما مبتكرا رائعا للكثير من أسرار الله في كونه.. وما ذلك إلا بالخلوة.. والانقطاع عن الناس.

ومطلوب لكل منا في كل فترة زمنية أن يخلو العبد بربه وبنفسه.. ليرى أين تسير قافلته.. وأين يولي وجهته.

وبرغم الأحداث الدامية في مصر وغزة والعراق وسوريا، وما يدبر للإسلام في مصر والتضييق الشديد على المساجد، ومحاولة تفريغ شعيرة الاعتكاف من مضمونها في  تبجح عجيب، وإصرار وقح، إلا أن هذه الموجة الضالة المضلة ستمر ويبقى الإسلام صامدا قويا متجزرا في نفوس وقلوب المسلمين.

وتقبل الله من ومنكم أجمعين.

من د. إبراهيم عوض

أديب عربي ومفكِّر إسلامي مصري