كالشيخ الكبير، صاحب التركة العظيمة، وقد اضطجع يمينا، وهو ينازع سكرات الموت، كان مضطجعا على يمينه، حتى لا يرى مَن حَوله، ألمه وهو ينازع سكرات الموت، عِزٌّ تَدَثَّرَ به، حتى مع آخر نفس تخرج مع روحه الطاهرة، هذا أولا.

 وحتى لا يرى الخيانة وهي تلمع في أعين الملتفين حوله، ينتظرون خروج روحه بسلام، ليقتسموا تركته بأمان.

تلك هي حالة الخلافة العثمانية صدر القرن العشرين، وقبل أن تفارق روح الرجل الكبير جسده، سارع بنوه لاقتناء بعضا من مخلفاته، ويا للأسف لم يقتنوا ما هو ثمين حقا، وينفعهم إن عاجلا أو آجلا، ولكن اقتنوا جزءا مما هو لهم نصيب وكلالة، وتركوا الفرض الذي يستوجب عليهم أخذه عنوة.

تلكم هي الجمعيات القومية التي تقاست العداء مع المحتل الأوربي ضد واليها وحاكمها الشرعي العثماني.

ليس هذا فحسب، بل تلك الجمعيات أصبحت النائب عن المحتل الذي مزق جسد دولتهم، وأصبحوا ينافحون عنه بكل ما أوتوا من قوة (القوة التي استمدوها من المحتل نفسه).

والأشد مرارة، حيث نسبوا كل ضعف لدولتهم، والحالة التي هم عليها من الذل والهوان، لما كان يعتقده والدهم (الخليفة العثماني)، حيث نسبوا كل الضعف للإسلام.

هذا هو حال الحركات القومية التركية والعربية، التي تشاركت العداء للخلافة العثمانية، ولم يتوقفوا هنا، بل واصلوا مشروعهم بكل وفاء وإخلاص، خدمة للمحتل الجديد.

ففي تركيا يتسلم أتاتورك مقاليد الحكم، ومن أكبر مشروعاته، محاربة كل ما هو إسلامي، من اللغة العربية، إلى الآذان، إلى كل مظهر له علاقة مباشرة بالإسلام، مثل الحجاب والعمامة.

وقد تغن الإعلام الجديد بمشروعات أتاتورك القومية كثيرا، حيث وجدنا إحدى الجرائد تنشر في صفحتها الأولى الشمس تشرف مع الحرف اللاتيني، الذي جعل الحرف العربي تحت قدميه، وأصبحت هذه عقيدة القوم، عقودا متتالية، وبالرغم من النكبات والنكسات، والمستوى المجتمعي المتدني الذي قادهم إليه هذا الحزب، إلا أنه حَمَّل كل فشله إلى أن تركيا كانت إسلامية، وأن كل الأزمات سببها الإسلاميون.

هذا بالنسبة للأتراك، أما بالنسبة للعرب، فالأمر لا يختلف  أبدا عما هو عليه الحال في تركيا الجديدة، حيث قرنوا كل التخلف في البلاد العربية، وسيطرة المحتل الأوربي على كل مصادر القوة، سببه الأول والأوحد، هو أن المجتمعات مازالت تؤمن بالدولة الإسلامية، وجعلت هذه الحركات القومية أن أول خطوة للانطلاق الحضاري هي التجرد عن الدين، وحصر الدين في المسجد كما فعل الأوربيون، حيث جعلوا الدين لا يتجاوز عَتَبَاتِ الكنيسة؛ لذلك وجدنا الدول العربية الممزقة، كل دولة تختار حِلفا معينا، الحلف الرأس مالي الغربي، أو الحلف الاشتراكي الشرقي، والغريب أن كلا الحلفين لم يزد الأمة إلا تخلفا، وانحطاطا، وذلة وصغارا، وبالرغم من أن الاشتراكين العرب سيطروا تقريبا على أكثر الدول العربية، حيث تولى عبد الناصر قيادة مصر، ثم انقلاب بن بلة، ومن بعده بومدين على الحكومة الشرعية في الجزائر، ثم انقلاب الأسد في سوريا، وانقلاب العراق الأول والثاني، وانقلاب ليبيا الذي جاء بالعقيد القذافي، والأمر نفسه في اليمن، أي أن كثيرا من الدول العربية، انضمت للحف الشرقي الاشتراكي، وجعلت هذه الدول من أول واجباتها فصل الدين مطلقا عن شئون الحياة، ولا يحق لأيٍّ كان أن يُكلِّم الحاكم في الحلال والحرام؛لأن هذا كلام المتخلفين، الذين أوصلوا الأوطان إلى هذه الحالة.

وأصبح راسخا في ذهن الحراك القومي العربي (الرأس المالي والاشتراكي)، والحركة القومية التركية أنه لا تقدم لأعتاب الحضارة إلا بعزل الدين تماما، أما في الوطن العربي فإضافة إلى الدين يجب عزل اللغة العربية، وإلا هذا هو الحال الذي ستبقى عليه الأمة.

تقريبا رسخت هذه الفكرة، وسخرت الدولة كل مجهوداتها الجبارة في محاربة الدين، واللغة في بعض البلاد، وهذا ما لا يحتاج إلى برهان، وكانت النتائج كلها خيبات أمل، ولم تغن عن الأمة شيئا، سوى ظهور الطبقات المجتمعية، وجعل الدولة لبعض الأشخاص، وظهور حركات غريبة في تصرفاتها وأفكارها، وضل هذا من أواسط العقد الخامس في القرن العشرين حتى أواخر العقد الأخير من القرن ذاته.

أواخر العقد الأخير من القرن الماضي، وسنة 1996م، في تجربة غريبة من نوعها، أطلقت قطر الصغيرة، التي لا تتعدى مساحتها، مزرعة حاكم عربي قناة الجزيرة، في حركة عادية.

يتبع.

من محمد عبد العاطي

باحث في مقارنة الأديان